تحت هذا العنوان المختار بعناية، يجتمع في القاهرة يوم السبت المقبل، المؤتمر العام العاشر لاتحاد الصحافيين العرب، ويحضره ممثلو 19 نقابة عربية للصحافيين، و45 هيئة ومنظمة عربية ودولية، بما يشكل أكبر تجمع من نوعه...
وإذا كان لهذا المؤتمر أهمية، فهي تنبع عملياً وأولاً من أهمية توقيت انعقاده، حيث الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد العربية، وحيث الضغوط المتزايدة عليها تتكاثر هذه الأيام من كل اتجاه، أما الأهمية الثانية لهذا المؤتمر فهي تنبع من الخط الفكري الذي يحكمه، ومن ثم من أهمية الموضوعات المطروحة على مناقشاته وحواراته، وفي المقدمة دور الصحافة والصحافيين في دفع الإصلاح الديمقراطي، وفي الدفاع عن حرية الصحافة والرأي والتعبير.
ولاشك في أن القارئ النابه، يتذكر أن العام الجاري (2004)، الذي دخلنا خريفه هذه الأيام، قد اشتعل بمبادرات الإصلاح الديمقراطي، وانشغل بمؤتمرات الإصلاح الديمقراطي، وارتبك بضغوط الإصلاح الديمقراطي القادمة من الخارج، وتلعثم أمام مبادرات الإصلاح الديمقراطي النابعة من الداخل، وها هو العام يكاد ينهي شهوره، ولم يتحقق شيء من الإصلاح الديمقراطي، اللهم إلا البيانات الزاعقة، التي أزعجت الآذان، أكثر مما أشبعت البطون والأفهام.
وإذا كان مؤتمر الإصلاح الديمقراطي العربي، الذي عقدته مكتبة الاسكندرية في مارس/ آذار الماضي، يمثل واحداً من البدايات العربية المهمة في هذا الشأن، فإن مؤتمر الصحافيين العرب للدفاع عن الديمقراطية وحرية الصحافة، لن يكون آخر النهايات، ذلك أن أمام تحقيق الديمقراطية، وإطلاق الحرية للكلمة والرأي والتعبير والعمل والتنظيم والمشاركة والانتخاب، في بلادنا العزيزة، طريقاً طويلاً تملؤه العقبات والصعوبات، عقبات التسويف والتأجيل، وصعوبات تخلي النخب الحاكمة، حتى عن جزء من سلطاتها ومسئولياتها، الأمر الذي لا يبشر إلا بمزيد من الفشل في الإصلاح.
والدليل أنه على رغم المحاولات الطويلة والتجارب المريرة، لشعوبنا المكافحة الصابرة لإحداث إصلاح ديمقراطي حقيقي طوال العقود الأخيرة، وعلى رغم تركيز الضغوط الخارجية والداخلية المطالبة بالإصلاح على مدى العام الجاري، وعلى رغم المبادرات والمشروعات والبيانات المحفزة، فإن تغييراً حقيقياً لم يحدث حتى الآن على الأقل.
ولعلنا نتذكر أن «وثيقة الاسكندرية» للإصلاح الديمقراطي العربي، الصادرة في مارس الماضي، قد وضعت الأساس النظري للإصلاح المنشود، مثلما وضعت آليات التنفيذ، لتنير الطريق أمام الحكام العرب، ولتكون «خريطة الطريق» عربية للإصلاح السياسي الاقتصادي الاجتماعي الثقافي، تستبق خرائط الطريق الأجنبية الهاجمة بقوة، وفور صدورها بعد مناقشات واجتهادات شارك فيها نحو مئتي مثقف من الدول العربية المختلفة، اعتبرها العرب والغرب على السواء، منارة كاشفة في ليل حالك... إذ ربما!
لكن أين هي وثيقة الاسكندرية للإصلاح الآن؟ مَن مِن حكامنا تفضل بقراءتها؟ ومَن مِن الذين قرأوها، تفضل بالاسترشاد بما جاء فيها من أفكار ومبادئ وآليات للإصلاح؟ بل مَن منهم من يتذكر الآن شيئاً عن هذه الوثيقة التي نالت ضجيجاً إعلامياً عربياً حين صدورها...
فهل كانت هناك «أسباب سياسية» ملحة، وراء صدورها آنذاك، وحين انتهت الدواعي أو تخافت تأثيرها، ضاعت وثيقة الاسكندرية وسط الأضابير الأرشيفية المتراكمة؟!
أتذكر الآن، أنني وقد شاركت في مؤتمر مكتبه الاسكندرية، الذي أصدر هذه الوثيقة قد استشعرت مع غيري من المشاركين المصريين والعرب، أن ثمة حافزاً ومحركاً قوياً، هو الذي دفع نحو استعجال إصدار «وثيقة عربية للإصلاح العربي»، وأذكر أنني قلت أمام الجميع في الجلسة العامة لمناقشة الصوغ النهائي للوثيقة، إن لي عدة تحفظات أود ذكرها علناً وأهمها:
- أولاً: نرجو ألا تكون الوثيقة الصادرة للإصلاح الديمقراطي في بلادنا، مجرد شهادة إبراء ذمة للمثقفين، كما نرجو ألا تكون شهادة براءة للحكومات والنظم الحاكمة، فالمثقفون ساهموا ومازالوا في الفساد والاستبداد، والحكومات مارست ولاتزال تمارس الفساد والاستبداد، ودورنا الحقيقي ألا نساعد في تجميل أي وجه قبيح أو فعل مشين، وألا نكون سلاحاً في يد أحد في الداخل، أو من الخارج.
- ثانياً: نرجو ألا تكون وثيقة الاسكندرية للإصلاح مجرد رد فعل، على مبادرات الغرب الأوروأميركي ووثائقه الداعية للإصلاح في المنطقة العربية، حتى بالفرض القسري والتدخل المباشر... بل يجب أن تكون الوثيقة استجابة حقيقية لمبادرات الداخل، وتعبيراً عن حاجة وطنية وقومية تطلب الإصلاح والتغيير.
ثالثاً: نرجو أن تؤشر هذه الوثيقة ومؤتمرها إلى مرحلة جديدة، تشهد استقلال المثقف الحقيقي عن السلطة الحاكمة، وقد آن الأوان لصوغ علاقة جديدة بين المثقف والسلطان في بلادنا، تقوم على الاستقلالية والمسئولية والتوازن، بعد أن تورط بعض المثقفين في خطايا السلاطين، في ظل علاقة التبعية وبيع الضمائر مقابل المناصب والمكاسب.
والخلاصة، كما يتذكر القارئ النابه، أن وثيقة الاسكندرية، كانت مطلوبة آنذاك لتستخدم سلاحاً سياسياً ودعائياً، في وجه مبادرة «الشرق الأوسط الكبير»، التي كانت أميركا ستقدمها إلى قمة الدول الصناعية الثماني، والتي كانت ستستضيفها في ولاية جورجيا الأميركية يوم 8 يونيو/ حزيران 2004، وهي التي أقرتها من بعد القمة الأوروأميركية، ثم قمة حلف الأطلنطي باسطنبول.
يومها رأى بعض المستشارين والمسئولين، أن تبادر الدول العربية، أو المثقفون العرب، «بمبادرة إصلاح» تفرمل المبادرة الأميركية، وتساعد الأصوات الأوروبية القائلة - آنذاك - إن إصلاح الدول العربية يجب أن ينبع أساساً من داخلها، وان على أميركا أن تتمهل في ضغوطها القاسية المحرجة!
وقد كان... تحققت بعض ظنوننا ومخاوفنا، وفور فرملة هيجان الثور الأميركي، أو انتظاراً منه لما سيفعله دعاة الإصلاح الذاتي، دخلت وثيقة الاسكندرية للإصلاح العربي أضابير الأرشيف العربي، بعد أن جرى تسويقها، وإيفاد الوفود لبيعها وترويجها في العواصم المختلفة، التي مازالت تنتظر فعلاً قليلاً، بعدما سمعت قولاً كثيراً كما سمعنا، ومن الواضح أن الانتظار سيطول.
نقول ذلك الآن، لأننا بصراحة جارحة، نخشى أن تلقى وثيقة حرية التعبير الصادرة قبل أيام عن مؤتمر آخر في مكتبة الاسكندرية أيضاً، وتلقى أعمال ونتائج مؤتمر الصحافيين العرب الذي سيصدر بعد أيام قلائل، ما تعاني منه وثيقة الاسكندرية للإصلاح العربي، وسط ظلام الخلط الأرشيفي، ومناورات التسويف والترحيل، ومحاولات التجميل والتزويق، وجهود الإصلاح بالقطارة نقطة نقطة، كما فعل المؤتمر الأخير للحزب الوطني الديمقراطي الحاكم في مصر المحروسة، الذي دفع دعاة الإصلاح الحقيقي والتغيير الشامل في حرج شديد.
فقد ركز على خطوات الإصلاح الاقتصادي، والإصلاح الضريبي والجمركي، بما في ذلك خفض الجمارك بنسبة كبيرة على واردات عدة منها السيارات و«الاستاكوزا» المستوردة، التي لا تتعامل معها الغالبية العظمى من الشعب، وأغلق الحديث عن أسس الإصلاح السياسي الدستوري الديمقراطي الحقيقي، بما في ذلك تعديل الدستور، وتحديث طريقة الانتخاب الرئاسي، وإلغاء حالة الطوارئ وقوانينها، وإطلاق حرية تكوين الأحزاب وإصدار الصحف، وتحرير الإعلام الحكومي من قبضة الهيمنة الحكومية البيروقراطية.
ومن المفارقات المهمة في هذا الموضوع، أن حملة دعائية وسياسية وإعلامية، كانت مهدت لمؤتمر الحزب الوطني هذا، بتبشير الناس، أن ثمة إصلاحات ديمقراطية وسياسية مهمة، ستصدر عن المؤتمر، بما في ذلك تقديم مشروع قانون لإلغاء عقوبة الحبس في قضايا الرأي والنشر، تنفيذاً لأمر الرئيس حسني مبارك، الذي أبلغه في مارس الماضي لنقابة الصحافيين، تأكيداً لاحترام حرية الصحافة وحرية الرأي والتعبير. والحاصل أن الحزب الوطني الحاكم، لم يأخذ هذه المبادرة، وأن حكومة الحزب الوطني لم تفعل شيئاً لتنفيذ الأمر الرئاسي الصادر عن رئيس الدولة، وأن عقوبة الحبس مازالت قائمة ترصع الكثير من القوانين السارية، وأن المحاكم تنظر عشرات القضايا التي يمكن أن تصدر فيها عقوبات الحبس، بل إن زميلاً صحافياً صدرت بحقه هذه العقوبة فعلاً، في ظل تلكؤ أعداء حرية الصحافة والرأي وتباطؤ ترزية القوانين، بحجة إعداد التشريع المناسب بالصيغة الملائمة! وإذا كان هذا هو حال الإصلاح الديمقراطي وحرية الصحافة في مصر المحروسة، التي يفترض أنها في مقدمة الدول العربية من حيث التطور السياسي، فإن حال باقي الدول العربية لا يقل سوءاً وتدهوراً.
وللأسف فإن معظم النظم العربية الحاكمة وقد ابتزتها الضغوط الأجنبية، لم تفلح حتى الآن في الاستجابة للمطالب الشعبية الداخلية الساعية للإصلاح الديمقراطي الوطني، على رغم تخوفاتها من المطالب الأجنبية، والمحصلة أن الإصلاح المطلوب لم يتحقق حتى الآن، وأن الديمقراطية لم تأتِ بعد، وأن الخطوات الأولى لم تبدأ أصلاً...
وبالتالي مازالت حرية الصحافة والرأي والتعبير، تعاني سياسة التضييق والانتهاك، وتشديد القوانين وتغليظ العقوبات السالبة للحرية، ما زاد من معدلات تطبيق عقوبة سجن الصحافيين من الجزائر والمغرب، إلى اليمن، مروراً بمصر والسودان وغيرهم في المنتصف.
لكن فلسطين والعراق، وكلاهما تحت الاحتلال، احتفظتا بأعلى سجلات انتهاك حق الحياة للصحافيين، قبل وبعد حق حرية الرأي، ففي العراق تحت الاحتلال الأميركي، قتل 55 صحافياً وإعلامياً خلال سبعة عشر شهراً منذ بدء الغزو الانجلوأميركي، وفي فلسطين تحت الاحتلال الصهيوني قتل عشرة صحافيين منذ بدء الانتفاضة الثانية حتى الآن... ومازال في قدرة الطغاة مزيد.
والخلاصة... إن سياسة التباطؤ والتلكؤ، والتسويف والهروب الدائم من استحقاق الإصلاح الديمقراطي الشامل، بجوانبه السياسية والدستورية، والاقتصادية والاجتماعية، والثقافية والصحافية، هي الحاكمة حتى الآن، الأمر الذي يحتاج إلى حشد الطاقات الشعبية أكثر من ذي قبل، دفاعاً عن الديمقراطية وحرية الصحافة والرأي، ليس فقط في وجه أعداء الحرية في الداخل، ولكن أيضاً في مواجهة سماسرة الديمقراطية في الخارج!
خير الكلام
يقول المتنبي:
ولم أرَ في عيوبِ الناس عيباً
كنقصِ القادرين على التمامِ
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 755 - الأربعاء 29 سبتمبر 2004م الموافق 14 شعبان 1425هـ