في الوقت الذي يتسابق فيه الجميع لإطلاق عبارات ومصطلحات الحداثة، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل المؤسسي والمجتمع المدني... الخ، فإن واقعنا يقول إن القبيلة والطائفة يسموان على كل هذه المفاهيم، ولذلك فإن مشروع الدولة الحديثة يتم تعطيله فعلياً. هذه المشكلة ليست خاصة بالبحرين أو بدول الخليج، وانما الغالبية العظمى من الدول العربية ترتكز أنظمتها على هيكلية تقليدية (الطائفة أو القبيلة أو الاثنين معاً)، وهذه الهيكلية التقليدية تسمو على كل ما يتحدث عنه المفكرون والناشطون والماسكون بزمام الأمور، فالحزب الحديث انما هو واجهة لقبيلة أو طائفة، والدولة بجميع مؤسساتها خاضعة أيضاً لمتطلبات القبيلة أو الطائفة.
القبيلة والطائفة أثبتتا أنهما أقوى من المؤسسة الحديثة، كما أثبتت القبيلة في صدر الاسلام أنها أقوى من مفهوم الأخوة الاسلامية، كما شرح ذلك «ابن خلدون» في مقدمته، وبيّن أن «العصبية القبلية» استبدلت الرابطة الايمانية كأساس للدولة العربية - الاسلامية.
مع بزوغ العصر الحديث، ووصول مفاهيمه الى البلاد الاسلامية في منتصف القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، حار التجديديون في كيفية التعامل مع متطلبات العصر الحديث التي تقوم أساساً على وجود مؤسسات للدولة (مجلس وزراء، برلمان، قضاء، جيش، مخابرات... الخ) قائمة على أساس الانتماء إلى وطن له حدود جغرافية ذات سيادة كاملة غير قابلة للتنازل لأي طرف آخر. واحتار الحداثيون أيضاً في الجانب الآخر من المعادلة وهو المواطن وعلاقته بالدولة، وكيف يمكن لهذا المواطن ان يحصل على حقوقه (التي لا يجوز التنازل عنها) وكيف يمكن لهذا المواطن ان ينظم جهوده ضمن مؤسسات مدنية... الخ.
في النهاية فشلت الدولة العربية الحديثة، واستقرت الدول التي اعترفت بأنها قائمة على أساس القبلية (دول الخليج) أو الطائفية (لبنان) وحظيت هذه الدول باستقرار وظروف أفضل من الدول الأخرى التي مازالت تتحدث عن الجانب النظري من الحداثة.
على أن النموذج الطائفي اللبناني والنموذج القبلي الخليجي استنفدا طاقاتهما... فالتحديات اليوم تنبع من بطن الهيكلية التقليدية، والتنظيمات الدينية التي تتحدى الأنظمة وتعتمد في قوتها على القبلية والطائفية، حتى لبنان أعلن في الأسابيع الماضية اكتشافه تنظيما دينيا مرتبطا بالقاعدة.
كما أن لبنان دخل مرحلة جديدة بعد إصدار قرار من الأمم المتحدة وأصبح وضعه دولياً كما هو حال فلسطين والعراق والسودان وربما تلحق دول أخرى قريباً بقطار التدويل.
التدويل من جانب، والتنظيمات الدينية المعتمدة على القبيلة والطائفة من جانب آخر، مخاطر حقيقية تهدد الأنموذج التقليدي للدولة العربية والخليجية، التي استطاعت خلال المئة عام الماضية تجاوز العقبات التي فرضها العصر الحديث.
الحوادث المحلية والاقليمية توضح أن جذور الصراع والتجاذب أصبحت متداخلة وخارج اطار النظرة الكلاسيكية - فعدد غير قليل من النخبة الحاكمة المتنورة تود فعلا الدخول الى العصر الحديث مؤسساتيا للتخلص من المخاطر النابعة من التنظيمات المتطرفة القائمة على مفاهيم الطائفة والقبيلة - أو تلك النابعة من التدويل، وهو السيف الذي تسلطه أميركا على كل البلدان التي تعتبرها ضمن دائرة مصالحها الحيوية.
على الجانب الآخر، فإن النخبة التي تطالب بالتغيير والانتقال الى العصر الحديث مازالت غير قادرة على الانتقال بنفسها الى هذه المتطلبات الجديدة، إذ مازال واقعهم يتحرك على أساس الطائفة والقبيلة، وهو خلاف لما يطرحونه نظريا وخلاف لما يوصلهم الى ما يودون الوصول اليه، وهو قيام دولة المؤسسات التي تحترم إرادة المواطنين وتنظيم علاقاتها بصورة حيادية وبعيداً عن الطائفية أو القبلية
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 755 - الأربعاء 29 سبتمبر 2004م الموافق 14 شعبان 1425هـ