ما نشرته مؤسسة «ماكينزي» من حقائق لم يكن اكتشافاً جديداً بمعنى الكلمة، فالوضع وضعُ أزمةٍ يتطلب الحلّ العاجل، ولأن الاصلاح المقترح من جانب «ماكينزي» يتناول وضع البلد من منطلق «شامل» ويقدّم العلاج «حزمة واحدة»، فان من واجب الجميع أن يشاركوا في هذا الحوار الذي سيحدّد حجم اللقمة التي سيحصل عليها أطفالهم، وفرص الدراسة ومجالات العمل التي ستتبقى أمامهم.
ملاحظتنا الأولى ان النقاش تم حتى الآن، على مستوى النخبة، من الصحافة إلى رجال الأعمال، إضافة إلى «إشعار» النقابات والنواب، والمطلوب أن تُفتَح أبواب النقاش على مصراعيها، ليشارك فيه الجميع، فالقضية المطروحة تمسّ حياة ومستقبل عشرات الآلاف من أبناء هذا البلد. وليس هناك من يمكنه أن يقول: «الموضوع لا يخصني»، لأنه سيحدّد «ما بقي» من مصيرك ومصير أبنائك من بعدك. ومن المؤسف أن تثور في هذه اللحظة الحاسمة زوبعةٌ «فردية» غير محسوبة تحرف مسير النقاش، فبدلاً من فتح الجرح الاقتصادي الكبير المتعفن، ترانا نرتد إلى مناقشة ملف الحريات وحقوق الانسان.
وإذا كانت «دراسة ماكينزي» مقترحاً بـ «عملية جراحية»، فانه لا يحقّ لأي طبيب أن يجري عملية من دون الحصول على توقيع من سيتعرض بطنه للشق بالمبضع. والتوقيع في هذه الحال يتطلب «إجماع» شريحة عريضة جداً، ليس أولها رجال الأعمال والتجار، ولن يكون آخرها الجمعيات السياسية بما فيها المقاطعة، مروراً بالنقابات والجمعيات الخيرية والصناديق الخيرية...انتهاءً بالطلاب الموجودين على مقاعد المدارس الاعدادية والثانوية اليوم، فضلاً عن الثلاثين ألف طالب جامعي. فالكل سيدفع جزءًا من الثمن، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. ومن لم يعلم حتى الآن بأبعاد القضية فعليه أن يراجع نفسه.
الملاحظ الآن أن الأطراف المختلفة بدأت تنافح عن مواقفها، وتدافع عن مصالحها، ما عدا المواطن البسيط المغيّب. فالتجار بدأوا ينشرون آراءهم، والطرف الرسمي المتبني للمشروع يروّج لرؤاه، وبقي رأي المعنيين الأساسيين بالموضوع: العاطلين الحاليين عن العمل، والمرشحين للانضمام إلى طابور الـ 100 ألف محبط، خلال تسع سنوات لا أكثر، لعل وعسى أن تحدث في الجدار ثغرة ينفذ منها إلى مستقبل أقل إيلاماً.
ثم ان التعامل مع المشكلة من منظور «عمالة وافدة»، في مواجهة «عمالة محلية» يراد أن تحل محلها فتنتهي الازمة، فيه نوع من التبسيط اللاواقعي للأمور، فالوضع أكثر تعقيداً من ذلك بكثير. ففي توصيفٍ لأحد الاقتصاديين العرب للوضع الخليجي كان يقول: «ان اقتصاد الخليج حال شاذة في العالم، حتى المحلّلين تحيّروا في تصنيف هذه الدول، فلا هي من دول العالم الثالث بسبب ارتفاع دخل الفرد الذي يضعها في مصاف الدول المتقدمة، ولا هي من العالم الصناعي من حيث التخلف الذي تعيشه». ولذلك أسبابه الكثيرة، من أهمها ضعف البنية السكانية المحلية، وكون معظم العاملين في القطاع الخاص من الاجانب الذين قامت على أكتافهم حركة العمران والبناء المبهر للبصر.
إذا جئنا إلى البحرين فسنجد العكس، إذ تتميز بوجود بنية سكانية كثيفة ساهمت في تنمية بلدها وإدارة المؤسسات والشركات الكبرى بنجاح. مع ذلك هناك ظاهرةٌ غريبة تحيّر المحلّلين الاقتصاديين، وهي انخفاض معدّل الرواتب خلال السنوات العشر الاخيرة. وهي ظاهرةٌ غريبةٌ في العالم كله، ماعدا روسيا ودول المعسكر الاشتراكي السابقة. هذه الدول كانت قد أخذت بنصائح المؤسسات الدولية في الاصلاح الاقتصادي، وتولّت الحكومات ما بعد الحقبة الاشتراكية سياسة الانفتاح والسوق الحر، فخرجت من «طاحونة الهواء» إلى طاحونة «السوق»! والنتيجة كما ترون، كل هذه الآلام الاجتماعية والاقتصادية، وكل هذا التفكك والمافيات والانهيار الاقتصادي.
لا نريد أن نتشاءم، فكما اننا لسنا من دول العالم الاشتراكي فاننا لسنا من العالم الصناعي، وعلينا ان نعرف واقعنا، دولة خليجية صغيرة، لا يزيد سكانها على 700 ألف نسمة، تعاني من مشكلات تتداخل فيها السياسة بالاقتصاد، والاجتماع بالدين، والامتيازات بالتمييز، والمصالح بالتعصب... إلخ، ومع ذلك هناك بصيص أمل، وما أبلغ الخبير الأجنبي حين قال عن حق: «لو كنت بحرينياً لشعرت بالفخر، لما يحدث في هذا الجزء من العالم، فالشعب هنا لا يختلف عن غيره من الشعوب... وإذا عاملتموه بصورة جيدة، ودربتموه على العمل، وإذا احتاج إلى جزاء جازيتموه، حينها سيكون هناك حل للمشاكل الكثيرة».
وكلنا أملٌ بأن تكلل أية جهود مخلصة بالنجاح لانقاذ الوطن من الكارثة المخيفة، ولكن على أن يكون الطريق واضحاً، وسط إجماع وطني على صحة الطريق، لكيلا نبدأ مشروعاً لنكتشف بعد سنواتٍ أننا أخطأنا هنا أو هناك
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 754 - الثلثاء 28 سبتمبر 2004م الموافق 13 شعبان 1425هـ