مسألة الطاقة تعتبر نقطة مهمة في الحسابات الاستراتيجية الأميركية وتوازنات القوة بين الولايات المتحدة والعالم. ويأتي النفط في طليعة تلك الحسابات، فهو يعتبر اقتصاديا سلعة استراتيجية من الصعب الاستغناء عنها قبل اكتشاف البدائل. وحتى تتوصل الصناعات الأوروبية - الأميركية إلى اكتشاف البديل سيبقى النفط يلعب دوره السياسي في توازنات القوى العالمية.
الحاجة إلى هذه السلعة دفعت الولايات المتحدة إلى الاستثمار في الخارج لتعويض النقص في مخزونها الذي بدأ يضغط على اقتصادها في مطلع سبعينات القرن الماضي. حتى العام 1970 كانت أميركا مكتفية ذاتياً من إنتاج حقولها من النفط. وخلال العقد الثامن من القرن العشرين بدأت تعتمد على الخارج، وأخذت توظف الرساميل لتحقيق اكتشافات جديدة تسد حاجتها المتزايدة لهذه المادة. وأسهمت ضغوط جماعات البيئة (حزب الخضر وملحقاته) في تحفيز إدارات البيت الأبيض لتوجيه شركاتها إلى التنقيب في أميركا اللاتينية وافريقيا وآسيا والدول العربية. فضغوط جماعات البيئة لعبت دوراً في تشجيع الشركات المحلية على توسيع رقعة التنقيب وحرمانها من استغلال الاحتياط الأميركي المقدر بحوالي 16 مليار برميل.
إلا أن ضغوط جماعات البيئة ليست هي العامل الوحيد في دفع واشنطن إلى البحث عن مصادر بديلة. فهناك العامل الاقتصادي للانتاج الذي لعب دوره في تشجيع شركات التنقيب على توظيف أموالها في الخارج. إذ ان الكلفة الأميركية لاستخراج النفط من الولايات المتحدة أعلى من معدل الكلفة في الخارج. فالأجور في أميركا اللاتينية وإفريقيا وآسيا أقل وكلفة الاستخراج أقل وبالتالي فإن كلفة الاستيراد من الخارج أوفر من الاعتماد على إنتاج السوق الداخلية.
منذ سبعينات القرن الماضي وتحديداً بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 وقطع النفط عن الغرب ورفع الأسعار أربعة أضعاف في فترة لا تتجاوز الشهور الأربعة قرعت أجراس التنبيه في الدول الكبرى. فتلك التطورات اعطت اشارات سياسية، فأسرعت الدول الصناعية إلى احتواء الأزمة واتخاذ التدابير اللازمة لحماية مصادرها من الطاقة ومراقبة خطوط الأنابيب وقوافل حاملات النفط.
كل هذه العوامل من تقلص الاحتياط الأميركي وتراجع مخزون الولايات وانخفاض الإنتاج وازدياد الطلب على المادة وضغوط جماعات البيئة وتدني كلفة الانتاج في العالم الثالث زاد من اعتماد الاقتصاد الأميركي على السوق الدولية لسد حاجته من هذه السلعة.
أدى هذا التعارض بين تراجع الإنتاج الداخلي ونمو حاجة السوق الأميركية إلى تضخيم مخاوف إدارات البيت الأبيض من نمو نزعات الاستقلال السياسي والنهوض الوطني في دول العالم الثالث التي تحتوي على ثروات لا تستغني عنها صناعات الدول الكبرى. فالعالم الصناعي بحاجة إلى خامات العالم الثالث وثروات دوله من مواد أولية طبيعية وخصوصاً تلك المتعلقة بحقول النفط واليورانيوم (النيجر مثلاً). وأملت الحاجة المتنامية إلى طاقات العالم الثالث رسم سياسة استراتيجية للدول الصناعية اقتضت تشكيل وكالة للطاقة للضغط على الأسعار والدول المنتجة. وأسهمت تلك الاستراتيجية السياسية في دعم الانقلابات العسكرية في إفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا والتعاون مع الدكتاتوريات وتشجيع الفساد وتهريب الأموال إلى أوروبا وأميركا لمنع الشعوب من الاستفادة من ثرواتها.
هذه الاستراتيجية الدولية اعتمدت على حاجات السوق وضغوط الصناعات الحربية المتحالفة مع شركات الطاقة وهي ايضاً ارتبطت بتناقص احتياط النفط منذ الثمانينات وانخفاض انتاجه. فأميركا اليوم تنتج حوالي 6 ملايين وتستهلك يومياً نحو 20 مليون برميل. هذا الفارق بين الإنتاج المحلي والاستهلاك العام (15 مليون برميل يومياً) تستورده الولايات المتحدة من المكسيك وفنزويلا ودول العالم العربي/ الإسلامي.
شكل النمو المتفاوت بين الإنتاج والاستهلاك نقطة توتر سياسية داخلية. مثلاً ادى انخفاض إنتاج النفط في العام الجاري بنسبة 5 في المئة إلى تراجع النمو الاقتصادي الأميركي من 4,1 في المئة إلى 3,6 ثم إلى 3 في المئة في السنة الجارية. وهو ابطأ معدل نمو منذ العام 2001.
هناك عناصر مختلفة تضغط على قيادة واشنطن. ومن هذه العوامل المتعددة الوجوه يحتل النفط أهمية خاصة في معادلة الاقتصاد الأميركي. مثلاً ارتفعت فاتورة الطاقة إلى مئة بليون دولار حين ازدادت أسعار النفط ووصلت إلى أرقام قياسية تجاوزت 48 دولاراً للبرميل في الشهر الجاري. وهذا يعني أن أميركا مضطرة تلبية لحاجات سوقها إلى اتباع أسلوب القوة لإخضاع الدول المنتجة لهذه المادة الاستراتيجية، متذرعة بشعارات كثيرة منها مكافحة الارهاب وملاحقة شبكات «القاعدة» من دولة إلى أخرى
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 754 - الثلثاء 28 سبتمبر 2004م الموافق 13 شعبان 1425هـ