أليس مخيفاً للعاقل أن يرى ويسمع ما يفكر فيه الجمهور العربي اليوم ويتساءل كيف يُكوّن هذا الرأي؟ وعلى أية أسس يقوم؟ وهل يمكن نسبته إلى رأي عام مستنير؟
في الأسبوعين الماضيين «احتفل» الإعلام العربي بالذكرى السنوية لحوادث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، وجاءت الاحتفالية على الطريقة المتوقعة، استطلاعات ومناقشات، كان من بينها اثنان، لفتا انتباهي بشدة احسب أنهما لفتا انتباه كثيرين.
كلاهما كانا من خلال الفضائيات العربية، وهي الأكثر تأثيراً اليوم من أية وسيلة اتصال، إذ لا تتطلب مجهوداً ولا تُفعل عقلاً.
الفضائية الأولى أجرت استفتاء يدور حول الإجابة عن سؤال مفاده: ترى من هو الذي يقف خلف هجمات الحادي عشر من سبتمبر؟ هل هو بن لادن وجماعته أم جماعات أخرى، وكانت الإجابة من الجمهور التي تجاوزت التسعين في المئة وتشكل غالبية، ان من قام بهجمات الحادي عشر من سبتمبر، أناس غير جماعة بن لادن؟
أما الاستفتاء الثاني فقد أجرته محطة أخرى، يقول السؤال: هل تؤيد ذبح المختطفين في العراق، فكانت الإجابة تقريباً من الجمهور الكريم بالنسبة وبالإيجاب نفسهما؟
تلك الإجابات أرعبتني حقيقة، هل نحن أمام جمهور مغيب علينا أن نطلق عليه مفهوم رأي العوام، بدلاً من الرأي العام؟ أم ان الإحباط قد وصل إلى منتهاه لدى الجمهور العربي إلى درجة أن أية أجوبة بهذا المعنى أصبحت مقبولة له من دون تردد؟ وهل يعي القائمون على توجيه أو بعض توجيه الرأي العام ما نحن فيه من مأزق، قد يأخذنا الى ما لا تحمد عقباه؟ وهل يعني أن ما نراه من حولنا من إرهاب هو الذي سيسود؟ وما هو دور وسائل الإعلام في تحويل الجمهور من الالتصاق برأي العوام الى أن يكون رأياً عاماً مستنيراً وعقلانياً؟
كل تلك الأسئلة واجبة الطرح، ونحن نرى أن الآراء تتحول من حولنا الى مذابح بشرية، ولا تبقى آراء لها وجهة نظر تحتمل أن تكون صحيحة أو تحتمل الخطأ؟
لم أكن استطع الفكاك من التفكير بأن وسائل إعلامنا تستجيب لرغبات جمهور تسود فيه الأمية الثقافية والسياسية الى درجة أن أخذها زمام المبادرة في التوعية باتجاه آخر، يعني أنها ستسقط في مغبة نقد شديد لا تتحمله، ولأن معظم وسائل إعلامنا من جهة أخرى هي رسمية أو شبه رسمية، فإن القائمين عليها يلتزمون بشعار «مع الخيل يا شقراء» من دون أن يرف لهم جفن أو يسألهم سائل.
ترى أين المشكلة؟
أرى أن المشكلة تكمن في الخلط المتعمد بين الديني والسياسي، فالديني هو الدعوة للمثل، وهو موحدٌ للناس، والسياسة هي نسبية وتحتمل التعددية والاختلاف، والخلط بينهما تلبس الساسة لبوس الدين، وتخلط بين المطلق والنسبي، بين المثالي والواقعي، فيصبح من يتصدر للتفسير الدين سياسياً خبيراً. وكم تظهر فضائياتنا أو حتى صحفنا رجال دين يبحثون في السياسة على أنهم أعلام لا ترد لآرائهم رادّة، يخلطون بين القطعي الثابت في ذهن الجمهور وبين النسبي المتغير.
هذا الخلط الذي ابتلينا به هو الذي يجعل من الناس تفقد عقولها أو تعطيها اجازة، لتستجير بفتوى من شخص، يجوز أن يخطئ أو أن يصيب، ولكن الكثيرين يتبعون ما يقول لانهم يعتقدون أن قوله ديني وليس سياسياً.
هذه الفتاوى التي تمطر علينا تقريباً في كل شيء ومن كل صوب، وصلت إلى القول بإباحة القتل بجزّ الرقبة، بعد أن كفرت الآخرين، وأصبحت المعجم السائد في السياسة العربية ليس النسبية ولكن القطعية المطلقة.
هذا الأمر لا تستطيع وسائل الإعلام العربية أن تناقشه أو تواجهه، البعض يستفيد منه ما استطاع الى ذلك سبيلاً، والبعض الآخر يغض الطرف عنه.
تجول في فضائياتنا العربية التي تمتد على مساحة واسعة من الأفق المتلفز، سترى في أي وقت ان من يحدّثك باسم الدين في السياسة هو السائد، وما أن تنصت قليلاً إلا وتجد أن المتحدث قد خرج عن الموضوع، وقام بانتقائية شديدة بجر المشاهد إلى ما يريده من نتائج هي في الغالب سلبية، والكثير من هذه الأمة المحرومة من التعليم الصحيح، تنصت وتوافق، وان أمكنها تفعيل ما استمعت له بلا تردد أيضاً.
تاريخ من ذهب!
افتح أي كتاب يدرس لطلابنا في العلوم الاجتماعية، ستقرأ العجب، التاريخ يقدم على طبق من ذهب. تاريخ ناصع البياض خالي من الشوائب يرسم مجتمعاً فاضلاً في وقت ما من ذاك التاريخ الغابر، فيشبّ الناس على فكرة إعادة ذلك العصر الذهبي الذي هو موجود في كتبهم فقط ثم أصبح في عقولهم الى الواقع، فواقعهم لا يجب أن يفعل بأدوات العصر الحديث، بل يعاد إليه ذهنياً، فيحدث الخلل بين المتوقع والواقع.
التعليم من أجل الحياة شعار يرفعه أهل التعليم عندنا منذ زمن، وفي الحقيقة هم يطبقون شعاراً آخر، التعليم من أجل الموت، عن طريق تلك المقررات والبرامج التي لا ترسم صورة مثالية للماضي فقط، بل تحض على أن تحقق الصورة المتخيلة في الواقع، فيقع جيل بأكمله في ضياع فكري، يسهل بعد ذلك اقتياده الى مكان متخيل لا وجود له.
هل أصبح الحديث في الدين في بلادنا سلعة؟ وهل أصبح ربط الدين الثابت بالسياسة المتحركة، طريقاً للشهرة والانتشار، وكيف يقبل عقلاؤنا ذلك الخلط؟
ربما يتم القبول أو السكوت خوفاً من المواجهة، وربما يتم السكوت عن ذلك طلباً للسلامة، أو طريقاً للاستفادة، إلا أن كل ذلك قاد الى جمهور يتسم بأعلى درجة من التضليل، بعده قد يرتكب بعض ذاك الجمهور الكثير من الخطايا، تبدأ بعيدة ثم تقترب.
هناك افتراض آخر، ان الناس تعرف الحقائق، ولكنها تريد أن تصدق ما يقال من اللامعقول بسبب إصابتها بإحباط كبير في حياتها، ألا يصح أن نبحث عن أسباب ذلك الإحباط، ونحاول أن نتفهم دوافعه ونرسم حلولاً ومخارج للتخفيف من غلوائه، إن لم يكن إزالته؟
أدواتنا في ذلك هي وسائل الإعلام، وكتب المدرسة، والمستنيرون من أبناء الأمة، إلا أنها حتى يومنا تساعد على التضليل ولا تنير الطريق، فيقع الجمهور الواسع تحت قناعة أن من قام بهجمات 11 سبتمبر غير جماعة بن لادن، وأن يحتفل بأعمال ذبح الأبرياء من الوريد إلى الوريد، على أنها أعمال «إنسانية»
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 753 - الإثنين 27 سبتمبر 2004م الموافق 12 شعبان 1425هـ