لم يحدث ان اتفقت الرؤية بين المعارضة والحكومة في هذا البلد كما اتفقت على تشخيص أحد الاسباب الكبرى للآلام الراهنة. فهناك شبه إجماع على أولوية الجانب الاقتصادي كعاملٍ حاسمٍ سيحدّد مصير البلد ويرسم ملامح مستقبله.
في السنين السابقة كان يتم التعامل مع السياسة بمعزلٍ عن الاقتصاد، فكلّ حركةٍ شعبيةٍ رفعت شعارات سياسية في المراحل السابقة كان للعامل الاقتصادي دورٌ كبيرٌ فيها، وكان من مصلحة البعض أن يتم تحريفها وتشويه أهدافها وإلباسها لباساً ضيقاً لمحاصرتها تمهيداً للإجهاز عليها، قبل أن يدرك الرأي العام أن هناك تدافعاً اجتماعياً وحقوقاً مضاعة وراءها مطالبون.
في هذه المرحلة التاريخية وصلت الأطراف المختلفة إلى قناعةٍ مشتركةٍ بأولوية الاقتصاد وضرورة معالجة هذا الملف الذي سيفجّر المستقبل إن تركت الأمور تجري على عواهنها. وليس أدلّ على ذلك من تصدّر الموضوع أجندة ورشة عمل «اصلاح سوق العمل»، و«ندوة نادي العروبة» التي أُفرِغت من محتواها وحُرّفت عن هدفها الأصلي بفعل ما جرى.
الموضوع لا ينتظر التأجيل، فهذا الوطن ينتظره وضعٌ كارثيٌ بمعنى الكلمة. وانه لمن الحكمة السعي لتدارك الكارثة قبل وقوعها، وما تنظيم مثل هذه الورشة وسواها إلا خطوة واحدة على الطريق الشاق والطويل.
الأرقام التي كانت ولاتزال وزارة العمل تتحفظ على نشرها وتحاول التقليل منها وتعتبرها من أسرار كهنوتها، أصبحت اليوم مشاعةً للناس جميعاً، تتداولها الصحافة المحلية، بعد أن قدّمت «ماكنزي» دراستها الشهيرة في ديسمبر/ كانون الأول الماضي. وكلها أرقام تبعث على القلق وتشيع جواً من الاحباط بإمكان إصلاح الوضع أصلاً. فاستمرار الوضع كالسابق سيودي بالبلد إلى قاع سحيق.
وفي الوقت الذي لايزال فيه الرأي العام يناقش قضية التمييز الطائفي نفياً أو إثباتاً، تنتظر البلد مشكلة «شاملة»، لن توفّر طائفة دون أخرى، فالبلاء سيعمّ الجميع. فالمستقبل سواء سادت فيه ممارسات التمييز السابقة أم تمّ إصلاحها باتجاهٍ أكثر عدالة وانصافاً وتكافؤاً في الفرص، فانه سيظلّ يحمل أسباب الاضطراب نفسها، لكثرة أعداد الخريجين الجدد في سوق العمل، المغرق أصلاً بالعمالة الوافدة. ونقاط الضعف المحسوبة على العمالة الوطنية لا تختلف باختلاف الطائفة أو المنطقة السكنية حتى يحلم أحدٌ بمستقبل جميل.
في الفيلم الذي عرض على المشاركين في الورشة، ضمّ لقطة لعائلة فقيرة من قرية المالكية الواقعة على الساحل الغربي من الجزيرة الأم، لا تستطيع شراء الفواكه طوال أشهر، وفي يقيني ان هناك عوائل أكثر بؤساً من هذه العائلة، ولكن الكاميرا لم تصل إليها... لكنها وصلت بذكاءٍ، إلى شابٍ بحريني من الرفاع، التي لا تبعد عن المالكية بأكثر من عشر دقائق، وهو في العشرين من عمره، يطمح للعمل في القطاع الحكومي. هذا الشاب وأمثاله بالآلاف، لا يدركون أن هذا القطاع - كما تقول دراسة ماكنزي - لم يعد قادراً على توظيف المزيد من البحرينيين بعد أن تشبّع إلى حدّ التخمة. وعليه فمن يراهن على الحكومة في استيعاب العاطلين عن العمل فانه يراهن على خيار خاسر.
من هنا فان المشكلة لن تقتصر على طائفةٍ بعينها أو مناطق محدّدة، وانما سيشمل البلاء الجميع. ومن يفكّر بطريقة «طائفتي» و«طائفتك» فانه يعمى عن نذر الكارثة التي أخذت تزمجر في الأفق من الآن.
تمنيت لو أن هذه الدراسة نُشِرت على أوسع نطاق، لتناقش في الجمعيات والمجالس والمنتديات، ويتداولها الصغير والكبير، ليعرف الجميع حجم الكارثة المقبلة، وليتحمل الجميع مسئوليتهم في إنقاذ بلد يدفع أقساط عقود سابقة. كما تمنيت لو عرضت «قناة العائلة العربية» الفيلم الذي أعدته «ماكينزي»، ليس للترويج هذه المرة لسياسات تفيد أناساً وتضر آخرين، وانما ليعرف الجميع ما ينتظرهم من أهوال. تمنيت... ولكن هل كانت الرقابة في تلفزيوننا الوطني ستسمح بعرضه
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 753 - الإثنين 27 سبتمبر 2004م الموافق 12 شعبان 1425هـ