التقرير الذي نشرته «الوسط» على صفحتها الأولى في عددها الصادر بتاريخ 24 سبتمبر/ أيلول الجاري، بشأن الصراع الأميركي - الفرنسي على النفط الإفريقي يكشف جوانب من الأسباب الحقيقية التي تقف وراء الاضطرابات الممتدة على طول «قوس الأزمات» الممتد من أفغانستان والقوقاز شرقاً وشمالاً إلى فنزويلا غرباً.
التقرير الصادر عن جهات قريبة من «البنتاغون» في واشنطن يشير إلى ثلاث نقاط مترابطة. الأولى تتعلق بمؤسسات التصنيع العسكري وقيام «المارينز» بتدريبات بكلفة 350 مليون دولار لجنود من تشاد ونيجيريا وجيبوتي والنيجر ومالي وموريتانيا والسنغال ويوغندا. الثانية تتعلق بصناعة النفط التي تعتمد أساساً على تلك الاحتياطات المكتشفة من الكاريبي امتداداً إلى وسط إفريقيا وصولاً إلى المنطقة العربية وانتهاء بدول آسيا الوسطى. والثالثة تتعلق بالأزمات السياسية والاضطرابات المفتعلة وما يسمى بمكافحة الإرهاب وملاحقة شبكات «القاعدة» وتهديد الدول التي تقع على خط النفط الممتد على طول «طريق الحرير» وطرق التجارة القديمة التي كانت معروفة قبل الاكتشافات الجغرافية.
الترابط بين صناعة النفط والتصنيع العسكري و«قوس الأزمات» يكشف عن حقيقة الحملة الأميركية الدولية ضد العالم العربي - الإسلامي. فآبار النفط واحتياطات الغاز ومناجم اليورانيوم تقع بنسبة 75 في المئة في هذه الدائرة من العالم. والاقتصاد العالمي الآن ومستقبلاً يعتمد بشكل أساسي على هذه الثروة الهائلة التي تصادف وجودها في العالمين العربي والإسلامي. والحملة على العرب والمسلمين التي تقودها الولايات المتحدة بذريعة مكافحة الإرهاب وملاحقة شبكات «القاعدة» هي الغطاء الإيديولوجي (الديمقراطية وحقوق الإنسان وما شابه) لذر الرماد في العيون. فالهدف في النهاية ليس محاربة الفساد وتنمية المنطقة وتحديثها، بل تأمين السيطرة العسكرية - الاقتصادية على ثروات تحتاجها الصناعات في أوروبا والولايات المتحدة.
كل التقارير المالية تشير إلى أن استيراد النفط يمثل عبئاً على الموازنة الأميركية، إذ تنفق واشنطن سنوياً على فاتورة النفط 193 ملياراً. وفي السنة الجارية ارتفعت الفاتورة عن السنة الماضية. كذلك ارتفعت فاتورة 2003 على فاتورة 2002 ووصلت الكلفة الإضافية إلى أكثر من 100 مليار دولار على رغم استيلاء القوات الأميركية على أفغانستان والعراق.
مسألة النفط مهمة لاقتصاد الولايات المتحدة وستبقى كذلك في الفترة الممتدة إلى العقود الأربعة المقبلة. فالنفط سلعة رخيصة وهي مادة رئيسية في نمو الاقتصادات الصناعية ولا يمكن الاستغناء عنها قبل التوصل إلى اختراعات حديثة لا تعتمد كثيراً على مادة النفط لاستخراج الطاقة. وبسبب هذه الصلة المباشرة بين الطاقة النفطية والاقتصاد الغربي (الأميركي تحديداً) ظهرت فجأة تلك التوترات الأمنية في منطقة «قوس الأزمات» منذ سبعينات القرن الماضي، ولم تتوقف الحروب الصغيرة والكبيرة منذ ذاك الوقت.
كل التقارير الاقتصادية تكشف عن وجود خلل في البنية الأميركية من جهة نمو حاجة الولايات المتحدة للطاقة النفطية وتراجع انتاجها. وشكل هذا التعارض بين الزيادة في الاستهلاك السنوي والتراجع في انتاج النفط الأميركي نقطة توتر داخلية دفعت الصناعات الحربية إلى اتخاذ قرار بالسيطرة المباشرة لتأمين خطوط الامداد التي وقعت مصادفة على طرق التجارة القديمة التي عرفت سابقاً بخط الحرير وخط قوافل الحجاج من موريتانيا والسنغال غرباً إلى السودان والصومال وجيبوتي شرقاً.
هناك مشكلة بنيوية إذاً لها صلة بمستقبل الاقتصاد الأميركي ومدى قدرته على النمو والصمود في مواجهة اقتصادات منافسة في أوروبا والصين وبعض دول آسيا. وهذه المشكلة التي تفاقمت في السنوات الأخيرة تفسر إلى حد كبير هذه الهجمة الإيديولوجية (السياسية - العسكرية) ضد العالمين العربي والإسلامي. فالمشكلة ليست في «النماذج» أو ما تسميه أجهزة صناعة القرار «الإرهاب» والإسلام بل في حاجة الاقتصاد الأميركي إلى هذه الثروة التي وقعت مصادفة في خط تجاري تعيش فيه أو بجواره الدول العربية والإسلامية في شقيها الآسيوي والإفريقي.
انها مسألة حاجة ووظيفة النفط في تأمين نمو الاقتصاد الأميركي في العقود الأربعة المقبلة. فالولايات المتحدة تحتاج إلى مزيد من النفط في وقت انخفض انتاجها بنسبة 5 في المئة في العام الماضي. فحجم الانتاج الأميركي تراجع إلى 5,43 ملايين برميل يومياً، بينما بلغ إجمالي النفط المستورد حوالي 15 مليون برميل يومياً جاءت نسبة 54 في المئة منها من صادرات النفط في «الشرق الأوسط». وبسبب ارتفاع الطلب العالمي على هذه المادة نتيجة نمو الاقتصاد الآسيوي - الصيني وزيادة اعتماده على نفط «الشرق الأوسط» ارتفعت الأسعار لتتجاوز سقف 48 دولاراً للبرميل فأضافت الزيادة مشكلة جديدة، وتحولت إلى مصدر قلق للمستثمرين
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 753 - الإثنين 27 سبتمبر 2004م الموافق 12 شعبان 1425هـ