العدد 2377 - الإثنين 09 مارس 2009م الموافق 12 ربيع الاول 1430هـ

هل على الدولة أن تدعم الهويات المنهارة؟

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

يمثّل مفهوم الاعتراف إشكالا حقيقيا أمام التعددية الثقافية، فهو يبدو وكأنه ينطوي على الحلّ والمشكلة في الوقت ذاته، فعدم الاعتراف بالأقليات والجماعات المهمشة قد يكون بمثابة إنكار لوجودها، وتبرير للظلم الذي يقع عليها، ومن جهة أخرى فإن الاعتراف الرسمي يتسبب في اختزال الأفراد وتشييء ثقافاتهم والتعامل معها على أنها شيء ثابت وموحّد ولا يجوز الخروج عليه.

فما المخرج، إذن، من هذا الإشكال؟ للإجابة عن هذا السؤال سأستعين بجون جراي، المفكر البريطاني المعروف، الذي لا يصنّف نفسه على أنه «تعددي ثقافي»، ومع ذلك فإنه لا يتردد في القول بأن التعددية الثقافية «ينبغي أن تكون على رأس الأجندة السياسية للدول الحديثة». وفي الوقت ذاته، فإنه لا يتردد في توجيه النقد إلى «تجاوزات التعددية الثقافية الغربية»، ويصفها بأنها شكل من أشكال «النزعة الأبوية» المضرّة بالثقافات والهويات. وإذا كانت التعددية الثقافية ترى أن احترام التنوع ينبغي أن يعبّر عنه في صورة الاعتراف الرسمي من قبل الدولة، فإن جراي يذهب، وبأسلوب لا يخلو من مفارقة، إلى القول بأن «الولع بالتعدد الثقافي هو في حقيقته نقيض لاحترام التنوع الثقافي».

ولكن، كيف يكون الولع بالتعدد الثقافي نقيضا لاحترام التنوع الثقافي؟ لا يختلف جون جراي مع التعددية الثقافية في حقيقة أن الظرف العالمي الحديث ينهض على التنوع الثقافي الذي لا يسلم منه أي مجتمع، حيث «نعيش جميعا تقريبا في مجتمعات لا يوحّدها أي تراث ثقافي وحيد، بل تحتوي على مجموعة من التقاليد وأساليب الحياة، وتؤوي مدننا الكبيرة جيوبا شاسعة من الحياة التقليدية، جاء بها في الغالب المهاجرون الجدد، في الوقت الذي ترعى فيه الأوساط البوهيمية الليبرالية حيث يحكم السلوكَ الذوقُ والأفضلية وليس أي نظام من الأعراف الراسخة». إلا أن هذا التنوع الثقافي الذي لا شفاء لعصرنا منه، لا يتطلب اعترافا رسميا من قبل الدولة من أجل التعبير عن واجب الاحترام تجاهه. والسبب أن هذا الاعتراف سينتهي إلى تعريف التنوع بصورة جوهرانية واختزالية مضادة لحقيقة التنوع ذاته حيث سيكون على كل واحد منا أن يحدد عضويته في جماعة واحدة تعترف بها الدولة، في حين «أن أيا منا لا تعرّفه عضويته في جماعة واحدة أو شكل واحد من أشكال الحياة الأخلاقية. لقد «رُضعنا لبن الكثير من المرضعات» كما يقول فولك جريفل، ونحن ورثة الكثير من التقاليد الفكرية والثقافية المميزة والمتضاربة في بعض الأحيان». وإذا صحّ أننا ننتمي إلى الكثير من الجماعات والثقافات والتقاليد المتنوعة، فإننا، في حقيقة الأمر، «لا ننتمي فعليا انتماء تاما» لأي من هذه الجماعات؛ وذلك لأننا ننتمي لأكثر من جماعة في الوقت ذاته، ولأن لدينا - وهذا هو الأهم - القدرة على تغيير هذا الانتماء وحلّه. وهذه القدرة بحد ذاتها «عنصر أساسي من عناصر هويتنا».

لا يشير جون جراي إلى تعددية هوراس كولين الثقافية، إلا أن نقاشه لسياسة التنوع الثقافي يلتقي من حيث المنطلقات والمآلات مع كولين في تأصيله لفكرة «الارتباطات الطوعية»، فهذا الأخير دافع عن ارتباطات جماعية يكون الانتماء إليها طوعيا وباختيار الأفراد أنفسهم، بما في ذلك الانتماء الأسري أو السلالي، لأن المرء إذا كان غير قادر على اختيار أسلافه وأسرته، فإنه يستطيع، بالفعل، رفضهم والبراءة منهم. وبالنسبة لجون جراي فإن هذه الطبيعة الطوعية في الارتباطات الجماعية هي التي تؤسس قدرتنا على حلّ هذه الارتباطات والفكاك منها، وهي التي تمنحنا الفرصة للاختيار الحر بأن نبقى «خارج الجماعة» أو داخلها.

ما دور الدولة تجاه هذه الارتباطات الطوعية؟ مرة أخرى، لا يختلف جون جراي مع التعدديين الثقافيين في الاعتراف بواجب الدولة في احترام التنوع الثقافي، إلا أنه يرى أن ترجمة هذا الاحترام لا ينبغي أن تكون من خلال اعتراف رسمي من قبل الدولة أو من خلال سياسات حمائية للأقليات والمهمشين؛ لأن ذلك يعني السماح بـ «تدخّل الدولة» ودعمها وتمويلها. وبدل هذا الاعتراف والسياسات الحمائية، يرى جراي أن الحل يكمن في انسحاب الدولة أو في وجود «حكومة صغيرة أو محدودة»، ويكون دورها «الأول والأخير هو الحفاظ على حرية الارتباط الاجتماعي في ظل حكم القانون». ويحدّد جراي هذه الحرية التي يطالب الدولة بالحفاظ عليها، في الحرية بالمعنى الليبرالي، والحرية الثقافية التي تتيح «للأفراد، إن هم أرادوا ذلك، حرية استكشاف شكل الحياة الموروث والاختيار بينه وبين الهجرة عبر التراث إلى أسلوب حياة يفضلونه». وهنا يفترق جراي عن التعددية الثقافية ويقترب من الليبرالية الكلاسيكية في مطالبتها بانسحاب الدولة وعدم تدخلها أو ما يسمى بـ «دولة الحدّ الأدنى» أي دولة مقلّصة عند حدودها الدنيا، ومقيّدة بمهمة إزالة العوائق التي تقف في وجه ازدهار الحياة البشرية فقط، وبتعبير تزفتان تودوروف فإن الناس أصبحوا «يطالبون الدولة لا بضمان السعادة لهم بل بإزالة العوائق فقط، تلك العوائق التي تحول دون سعادة الأفراد». وعلى هذا، فليس من واجب الدولة، من منظور جراي، «دعم الهويات المنهارة وتعزيزها، ومنح الهويات للأشخاص الذين يعانون من الاغتراب»، كما ليس من واجبها «جعل العالم ملاذا للتقاليد الثقافية التي تعرّضها الحرية التي يحميها الارتباط المدني الطوعي] للخطر»، بل إن واجبها يتمثّل في توفير «الإطار الذي قد تتنافس داخله أساليب الحياة والفكر المختلفة في تعايش سلمي».

وفي دولة مقيّدة إلى هذا الحدّ، فإن واجب احترام التنوع الثقافي ينبغي أن يترجم في صورة السماح بازدهار أشكال متنوعة من أساليب الحياة، وحفظ حرية الأفراد في الانتماء الأحادي أو التعددي الذي يفضلونه، بحيث لا يكره أحد على الانتماء ولا على عدم الانتماء. وينتقد جراي مطالبة التعددية الثقافية بتحصين تقاليد الأقليات داخل مؤسسات محمية وبمنحهم امتيازات تعسفيّة؛ لأن هذه المطالب هي التي تؤسس لحياة «الجيتوهات التي تمولها الدولة بالدعم». ويرى جراي أن هذه «تعددية ثقافية زائفة ومدمرة لأنها تعبّر عن اقتناع عنصري بأن ثقافات الأقليات لا يمكن أن تحافظ على نفسها بدون الدعم الأبوي» من قبل الدولة. ومن المفارقات أن هذا الدعم عادة ما يقف عائقا في سبيل تقدم الأقليات، ويستشهد جراي على ذلك بتاريخ المهاجرين الهنود في بريطانيا، وتاريخ المهاجرين الصينيين واليابانيين والتاريخ المأسوي للسود في الولايات المتحدة الأميركية، ويخلص إلى أن «تلك الإجراءات الأبوية والرفاهة عادة ما تفيد في الإجهاز على الحياة الأسرية والثقافية والتراثية التي أصابها الإجحاف الاجتماعي والضائقة الاقتصادية بالضرر». ولكن هل انسحاب الدولة هو الحل؟ وهل ينقذ هذا الانسحاب هويات الأقليات والمهمشين والمحرومين من الانهيار الذي يتسبب فيه تدخل الدولة ودعمها الأبوي؟

وللحديث صلة في الأسبوع المقبل.

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 2377 - الإثنين 09 مارس 2009م الموافق 12 ربيع الاول 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً