محكمة الجنايات الدولية أصدرت أمرا باعتقال الرئيس السوداني عمر حسن البشر بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب في منطقة دارفور، وأكد المدعي العام للمحكمة أن هناك نحو مئة شاهد ضد البشير وأنه بقراره يطبق العدالة في العالم بحسب واجباته!
ولأننا في عالمنا العربي لم نعد نعرف معنى «العدالة» التي يتحدث عنها «أوكامبو» كما أننا لم نعرف حتى الآن معنى «الإرهاب» الذي اخترعه سيئ الذكر «جورج بوش» وطبقه علينا رغم أنوفنا، ومازال هذا «الإرهاب» مسلطا على رؤوسنا حتى الآن فإننا بدأنا نشك في كل ما يقوله الأميركان وأتباعهم ومحاكمهم عنا حتى ولو أحضروا ألف شاهد بدلا عن المئة التي تحدث عنهم «أوكامبو».
شن الأميركان حربا قذرة على العراق بحجة وجود أسلحة دمار شامل فيها مع أنهم يعرفون أنهم كاذبون، وقد اعترفوا بذلك فيما بعد... وفي هذه المعارك قتلوا عشرات الآلاف، وهجّروا بضعة ملايين، واستخدموا أسلحة محرّمة دوليا، واغتصب جنودهم مجموعة من العراقيات، فعلوا كل ذلك -وأسوأ منه- ولم تتحرك هذه المحكمة، ولا سواها من المنظمات الدولية، ولا أعتقد أنها ستتحرك الآن... فأين العدالة التي يتحدث عنها أوكامبو ومحكمته؟
رئيس الوزراء البريطاني السابق «طوني بلير» كان شريكا في كل الجرائم التي ارتكبها بوش، وقد ارتكب جيشه جرائم حرب في جنوب العراق، فأين المحكمة الموقرة عن كل هذه الجرائم، أم أنها لا ترى إلا بعين واحدة؟
أما جرائم الصهاينة في فلسطين فحدّث عنها ولا حرج؛ قتل، وتهجير، واستيلاء بالقوة على منازل الآخرين، واستخدام كل الأسلحة المحرمة، وإبادة جماعية، وحصار قاتل لأكثر من مليون ونصف المليون، ومع كل هذا فلم نسمع أن «أوكامبو» تحرك لمحاكمة المجرمين الصهاينة، بل إنه حاول أن يجد الأعذار لعدم الحديث عن هذا الموضوع فضلا عن فعل أي شيء تجاه مجرمي الصهاينة... وأسأل مرة أخرى: أين العدالة التي تحدث عنها المدعي العام أوكامبو؟
الحكومة السيرلانكية أعلنت قبل يومين أنها قتلت مئة شخص خلال أربع وعشرين ساعة من متمردي التاميل، وبطبيعة الحال هناك آلاف تم قتلهم من الثوار التاميل خلال السنوات الماضية، فلماذا لم تتحرك المحاكم الدولية، ولماذا لم تطالب أميركا باتخاذ إجراءات صارمة ضد الحكومة السيرلانكية؟
أين العدالة الدولية؟ أم أن محبة «إسرائيل» وأميركا لسياسة سيرلانكا جعلت كل «محبي العدالة» لا يرون شيئا؟
لا أريد أن أستمر في إيراد الأمثلة على أن كذب المدعي العام، وكل الدول التي سارعت بتأييد القرار ومطالبة البشير بتسليم نفسه، فالعرب يعرفون كل ذلك، أما أصحاب الأهواء فهم اتخذوا مواقفهم التي تخدم سياساتهم فمهما أثبت الآخرون زيف ادعاءاتهم فهم لن يتراجعوا، ولنا في حرب العراق درس يصعب نسيانه.
استهداف السودان ليس وليد اليوم، والمطامع الغربية فيه ليست جديدة، وأوضاع السودان الداخلية شجعت كل الطامعين على الإسراع في تنفيذ مطامعهم فقد لا تعود الفرص سانحة لهم مرة أخرى!
السودان بلد غني بكل أنواع الثروات؛ البترول، والمعادن كلها، واليورانيوم، والمياه، والموقع المتميز في إفريقيا... كل ذلك يُغري بالاستيلاء على ثرواته، والأميركان وأعوانهم لا تعجزهم الحيلة مادام العرب في سبات عميق!
والسودان بلد مسلم في عمومه، ورئيسه الحالي يتبنى مواقف إيجابية ضد الصهاينة والأميركان... فهو مع المقاومة في فلسطين ولبنان، وكان ضد الغزو الأميركي للعراق وأفغانستان، وهذه -في عرفهم- جرائم كبيرة يستحق عليها أن يُحاكم بكل أنواع التهم!
وفوق هذا كله فأحد زعماء الفصائل «عبدالواحد نور» يعد «إسرائيل» بكل شيء إذا قُدِّر له أن يحكم السودان، وقد زارها وأعلن خيانته لوطنه وهو فيها... كل ذلك أقنع الصهاينة والأميركان ومن سار على منهاجهم أن الإطاحة بالبشير هي العدالة بعينها!
على أية حال ما يفعله أعداء هذه الأمة ليس جديدا علينا، وشخصيا لا ألومهم عليه لأنهم يبحثون عن مصالحهم وبكل الوسائل القذرة، لكن ماذا فعل العرب والمسلمون؟ وماذا سيفعل السودانيون أنفسهم للدفاع عن كيانهم وبلدهم من التمزق والاقتتال؟
وزراء الخارجية العرب أدانوا القرار وقالوا إنه جاء متسرعا ومتناقضا مع القانون الدولي! الشيء الجيّد - قياسا لمواقفهم - أنهم طالبوا المحكمة بالقيام بدورها ضد المسئولين اليهود بسبب جرائمهم في غزة!
أمّا مجلس الجامعة العربية فقد عبّر عن انزعاجه الشديد! ما شاء الله وتبارك الله! انزعاج ليس إلا... وطالب المجلس -حفظ الله الجميع- بتعليق القرار لمدة عام! فقط تعليق وليس إلغاء.
هذه التصريحات كانت مخيبة للآمال وإن كانت متوقعة بحسب ماضيهم المشرق! وللأسف كانت تصريحات دول أخرى أكثر صرامة مما صرح به العرب وجامعتهم... فالمبعوث الروسي إلى السودان «ديمتري مدفيديف» قال: إن مذكرة توقيف الرئيس السوداني تشكّل ظاهرة خطيرة.
أمّا رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة «ميغيل بروكمان» فقد أعلن عن أسفه لهذا القرار واصفا تلك الخطوة بأنها ذات دوافع سياسية وليست من أجل تطبيق العدالة في العالم.
إن المعروف أن لرؤساء الدول حصانة وفق اتفاق فيينا العام 1961م، وقد استخدم بعض مجرمي الصهاينة هذا الاتفاق لصالحهم، فلماذا لا يستفيد منها البشير؟ ولماذا يهدد أوكامبو أنه من الممكن القبض على البشير في أي مكان؟ أين العدالة في كل ذلك؟
في اعتقادي أن على العرب وكذلك دول إفريقيا اتخاذ مواقف أكثر وضوحا وجرأة... عليهم أن يعلنوا صراحة رفض القرار، وعليهم أن ينسحبوا من هذه المحكمة الظالمة لأن انسحابهم سيقضي عليها، وهم في الوقت نفسه لن يستفيدوا منها، بل قد يكون بعضهم الضحية القادمة لهذه المحكمة.
صدام حسين كان أول رئيس عربي يُقتل، وصمت معظم العرب؛ خوفا أو تأييدا...
والرئيس البشير أول رئيس في العالم يُصدر بحقه مذكرة إيقاف وهو في منصبه، ولسنا نعرف كيف ستكون النهاية... ومالم يتخذ العرب مواقف قوية فنحن بانتظار رئيس قادم لامحالة، والحبل على الجرار!
وأخيرا... فإنني لا أدافع عمن يثبت ظلمه لمواطنيه مهما كانت درجة هذا الظلم، وأرى أن كل شخص -مهما كان- يجب أن ينال جزاءه على أفعاله السيئة... لكنني أدرك أن العدالة الدولية المزعومة لا تنال إلا الضعفاء ومن أجل ذلك أرفضها.
وأقول للإخوة في السودان: عليكم أن تتحدوا، وأن تنبذوا الفرقة كما تنبذوا الخونة الذين بينكم ومن هنا تكون بداية الطريق.
إقرأ أيضا لـ "محمد علي الهرفي"العدد 2377 - الإثنين 09 مارس 2009م الموافق 12 ربيع الاول 1430هـ