لأول مرةٍ في حياتنا نسمع عن صحافيين يدافعون بشراسةٍ عن سجن زملائهم الصحافيين!
ولأول مرةٍ في حياتنا نسمع عن كاتباتٍ يكتبن ضد حرية التعبير ويطالبن بقمع حرية الكلمة، فيما مثلت زميلةٌ إلى المحاكمة قبل أسبوع، وستمثل بعد أسبوعٍٍ زميلةٌ أخرى!
ولأول مرةٍ في حياتنا نقرأ مرافعاتٍ متهافتة للدفاع عن جرجرة الصحافيين للمحاكمة بسبب آراءٍ يكتبونها بقصد الإصلاح!
ولأول مرةٍ في حياتنا نسمع تبريراتٍ سخيفة لا تنطلي حتى على أطفال الصف الثالث الابتدائي، يتم فيها تفسير جرجرة الصحافيين للمحاكمة وتهديدهم بالحبس على أنه تدعيمٌ لدولة القانون والمؤسسات!
قالوا خالف تذكر بلعناها. قالوا مجرد حب للجدل والفذلكات بلعناها أيضا. قالوا مصالح وعطاءات يسيل لها اللعاب (هَمْ فهمناها)... بس بهذه الدرجة من الخفّة واللف والدوران، ما شفنا في حياتنا وما راح نشوف!
المراقب المحايد يرصد في الأفق رائحة هجمةٍ مضادةٍ للحريات، تعبّر في جوهرها عن ضيقٍ شديدٍ بالنقد، وهو ما رصدته قبل عامين المنظمات الحقوقية الدولية في تقاريرها الدورية، وهؤلاء يشعرن بـ «الاستياء حين نشرت الصحافة المحلية أخبار القضية المرفوعة من المجلس الأعلى للقضاء ضد الزميلة لميس»! فالمطلوب أن تُسلّم الصحافة رقبتها وهي ترى الأقلام تجرجر واحدا تلو الآخر للمقصلة، مرة بدعوى «إهانة فلان»، ومرة بدعوى «توجيه عبارات من شأنها الإساءة إلى علان»! وهؤلاء المتضايقون من النقد، يشغلون مواقع للخدمة العامة، في مواقع يحتك بها الجمهور ليل نهار، وليسوا في بيوتهم لئلا يكون أداؤهم فوق النقد.
المطلوب من الصحافة لكي لا تستاء أختنا في الله، أن لا يتم توجيه أيّ نقدٍ لأي شخص، في أي موقع، لئلا تنجرح مشاعره الرقيقة، فيرفع عليكم قضية احتجاجا على المساس بذاته! ونسِيَتْ أن من يعمل يخطئ، ومن يخطئ يحتاج إلى من يراقبه، لتتكامل الأدوار في المجتمع المتوازن، فلا تطغى سلطةٌ على أخرى. ونسِيَتْ فوق ذلك موقع الصحافة في العصر الحديث، كونها سلطة رابعة كما هي حال البرلمان.
المطلوب أيها الصحافيون أن تطبّلوا وترقصوا وأنتم ترون زملاءكم وزميلاتكم يجرجرون واحدا تلو الآخر للمحاكمة، وتعتبرون ذلك انتصارا للقانون، وتقدما ملحوظا يستحق الإشادة به!
المطلوب من الصحافة أن تتولى الترويج والتطبيل لهذه الإنجازات الكبرى في مانشيتاتها على الصفحة الأولى، وليس «دعسها» في الصفحة الداخلية للتخفيف من مرارتها في الحلوق!
المطلوب أيضا من المجتمع المدني الوقوف عند هذه «المتغيّرات الحضارية»، والتصفيق بشدة، والغناء بصورةٍ جماعيةٍ لها، وعقد الندوات لتوعية الجمهور بأننا نتقدّم كثيرا في مجال الديمقراطية وحرية التعبير كلما زاد عدد الصحافيين والكتّاب الملاحقين في المحاكم!
المفروض ببعض من يعانين من اختلالٍ في التوازن المنطقي، بدليل هذا التحول الفاضح إلى دعاةٍ على المكشوف للفصل العنصري، ونظرية «مساجدنا» و»مساجدكم» لتشطير الوطن الواحد... أن يقفن قليلا ويأخذن إجازة، لإعادة تفكيرهن وتعديل مواقفهن وترقيع دفوعاتهن المتهافتة، فما بعد الحقّ إلا الضلال، وما بعد الحرية إلا الأغلال. وصدق عزّ من قائل: «قل أعوذُ بربِّ الفلق. من شرِّ ما خلق. ومن شرّ غاسقٍ إذا وقب. ومن شرّ النفاثاتِ في العقد. ومن شر حاسدِ إذا حسد».
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2377 - الإثنين 09 مارس 2009م الموافق 12 ربيع الاول 1430هـ