العدد 2377 - الإثنين 09 مارس 2009م الموافق 12 ربيع الاول 1430هـ

الارتباك السياسي وعقلية الكراسي: مشهدنا العربي في مرآة السودان

هبة رؤوف عزت Heba.Raouf [at] alwasatnews.com

كاتبة مصرية

أتابع بهدوء مشهد السودان وأنا أحاول أن أتماسك، فالخطب عظيم، إذ تلوح في الأفق غزوة أميركية جديدة على وطننا العربي مهد لها ارتباك سياسي واضح في ظل نظام عسكري أخفق في الوعي بالمتغيرات الدولية والإقليمية وأدخل دولة من أكثر دول العالم العربي ثراء بالموارد في دورة جهنمية من النزاعات الداخلية.

ما أخطر المشهد، فمن الصعب أن نعطي الحماسة الهادرة التي نعشقها كشعوب أية شرعية وهذا النظام العسكري يحكم السودان منذ عشرين سنة ولم يحقق أية نجاحات على ثلاث مستويات مركزية: مستوى التكامل القومي (الجنوب يوشك أن يعلن انفصاله في استفتاء قريب)، ولا على مستوى الديمقراطية (معظم القوى المعارضة محجوبة بما فيها حليف النظام الترابي المحاصر في بيته ثم مؤخرا القابع ثم في سجنه) ولا على مستوى كفاءة توزيع الثروة القومية (وهو ما أدى لمأساة دارفور بل وينذر بمشاكل مشابهة في الشرق السوداني أيضا).

من قال إنه لا توجد مؤامرة؟ بالطبع هناك مؤامرات! لكن هناك أيضا مغامرات غير محسوبة من النظام، وعدم جدية في التعامل مع ملفات خطيرة، والإصرار على التواصل مع العالم بخطاب لا يمكن أن يرتضيه أحد.

الكيل بمكيالين في النظام الدولي معروف، نعم بالتأكيد، لكن لهذا السبب تحديدا كان يجب الوعي والتحسب بأن الكارثة قادمة، وأن التحركات العسكرية والتسويات المحدودة والتركيز على الإعلام بدلا من الإنجاز لحل المشكلات أمر لن يؤدي إلا إلى مزيد من الكوارث.

لقد زرت السودان في العام 1989 بعد ثورة الإنقاذ ورأيت بعيني شبابها المتحمس يتم حشده بشعارات الجهاد، وعلمت عاما تلو العام أن من قابلتهم هناك قتلوا في الجنوب، هذا الجنوب الذي قالت القيادة في تلك الأعوام الأولى إنها لن تتنازل عن شبر منه، وزرت السودان مرة أخرى عام 1999 وسمعت القيادات تقول ببرود أعصاب تحسد عليه: ليس عندنا مشكلة في انفصال الجنوب وسنحترم إرادته!

الآن؟ بعد كل هذه الدماء وتعطيل التنمية كل هذه الأعوام ودفع هذا الثمن من دم الشباب السوداني؟

أما كان يمكن الوصول لنفس النتيجة بتفاوض يمنح سلطات حكم ذاتي ونصيب من الثروة القومية للأنحاء المختلفة للسودان - من الجنوب لدارفور - قبل أن تأتي هذه الكوارث على رؤوسنا؟

ليس سرا أن الإمبراطورية المهيمنة تسعى لتقسيم السودان، بل وأعلنت مخططات تقسيم المنطقة العربية لدويلات، السؤال هو ماذا فعلنا نحن لتدعيم العدل الاجتماعي والديمقراطية والمشاركة الشعبية الحقيقية وليس الظاهرية تحت حكم العسكر؟

والحق أن همّ السودان هو ذات همّ مصر، فكلنا في الهمّ عرب، لكننا لا نتعلم من الدروس. احتفينا بعنترية صدام الذي كان يحارب بصوته وشعره، وعنترة بن شداد كان يحارب بسيفه وفرسه، وانتهى الأمر بنا إلى عراق ممزق الأشلاء أدخلني مشهده في حالة أفهمتني معنى «جيل نكسة 196»، فقد صرنا نحن جيل سقوط العراق واحتلاله - هذا الكابوس.

الفارق هنا في المشهد السوداني أن القوات الأطلنطية جاهزة للتحرك خلال أيام، لن ننتظر طويلا، تم استدعاءها تحت بصرنا وسمعنا لجنوب البحر الأحمر بدعوى حماية المياه الإقليمية والدولية من القراصنة الصوماليين، وهو لغز لم يفهمه أحد وأصابع التآمر فيه واضحة، سيناريو مفضوح تم افتعاله وتدبيره وتجهيزه لكي تتحرك الأساطيل البحرية وتدخل بالقرب من السودان، وتتجهز البحرية الأميركية والناتو في جنوب الهندي متأهبة للحركة، والفارق أيضا أنه لو تم الأمر في السودان باتجاه التصعيد واندلعت شرارة الأزمة عسكريا فإن وسط القارة الإفريقية وحزامها سيلتهب، فالعراق محاصر - رغم كارثته - بدول قوية لها حدود منيعة مثل سورية وإيران وتركيا، أما السودان فدولة ضخمة تشترك في الحدود مع دول عديدة كلها رخوة ومشاكلها الحدودية مخيفة، بما يهدد استقرار قلب القارة الإفريقية برمته.

ما آلمني بجوار هذه المراهقة السياسية والحملات التعبوية التي تذكرنا بنظم الحكم الاشتراكية من سير لأطفال المدارس «ضد القرار... ضد القرار» وحرص الرئيس السوداني على النزول لمشاركة المتظاهرين وإلقاء الخطب العصماء في زي القبائل هو أنه هاجم المحكمة الجنائية الدولية وسخر من أهميتها المرة تلو المرة، وهي المحكمة التي تسعى الشعوب لتقويتها وتم تأسيسها بنضالات مدنية دولية لمعاقبة مجرمي الحرب من الصرب إلى الصهاينة... واليوم يهاجم الرؤساء العرب هذه المحكمة ببساطة لأنهم يرفضون رفع الحصانة عنهم ويتذرعون بأنهم يمثلون الأمة والشعوب، والحقيقة أن كل منهم يريد الحصانة ليستمر النهب المنظم لهذه الأمم والشعوب وبحماية نفس القوى الغربية التي يهاجمونها على الفضائيات ويقبلون شروطها المهينة في حق الأوطان وراء الكواليس.

نعم المحكمة قدمت السودان على غزة، والمحكمة كان الأولى بها أن تهتم بقضايا كثرة أخرى، لكن هذا يتوقف على جهدنا نحن في وقف قرار المحكمة الذي كان جهدا ضعيفا جدا أهملنا فيه العمل الجاد، ففاز من حركوا المحكمة وزودوها بالوثائق، ومازال أمامنا جهد كي تتحرك المحكمة في محاكمة كجرمي الحرب في غزة، المهم أن نتحرك، وأن نجهز ملفاتنا، ونعلم كيف نتعامل مع مكائد القانون الدولي لا أن نقول فلتذهب المحكمة للجحيم وليبق رؤساؤنا الأشاوس فوق مقاعدهم نفديهم بالروح والدم! حتى لو مزقوا الأوطان تمزيقا. فداء لهم؟

لقد كان العرب يعاملون السودان كأنه في ذيل قائمة الدول بل البشر، لا أحد يزورها ولا أحد يهتم بمتابعة ما يجري فيها، واليوم تداعوا لنصرة السودان لغرض في نفس يعقوب، لكن لأن كفاءتهم السياسية والقانونية معدومة بالاستبداد فلن يزيدوا الطين في نظري إلا بللا.

اليوم يتحركون؟ وكان الأولى التحرك لبحث أزمة دارفور بقوة منذ البداية، وكان بعض من مال النفط العربي الذي ضاع في الأزمة المالية كفيلا بصنع المعجزات وكان أولى به فقراء السودان، لأن الدائرة ستدور ببساطة، وانفراط عقد النظام العربي لو تم احتلال السودان سيكون له آثاره على الجميع... وأولهم مصر.

قطعة من القلب العربي تذبح اليوم بسكين بارد، نصرة أهلها واجبة... لكن دعم نظامها في حملته الغوغائية وهو النظام العسكري الذي فشل - نعم فشل - في التعامل مع المعطيات السياسية والجيواستراتيجية في السودان، دعم هذا النظام في نظري خيانة لشعبه، هذا الشعب الذي يحاول العسكر استمالته اليوم بمشروعات من عوائد النفط كانت حقه منذ عشرين سنة لولا سوء تقدير الأولويات والامكانات... والمخاطر.

إن الحماسة معيار لا بأس به في قياس كوننا مازلنا أحياء لم نمت، لكنها إذا غلبت العقل فإنها توشك أن تقتلنا، ونحن شعوب لا نتعلم، وإذا قال قائل في خضم هذه الضوضاء أليس منكم رجل رشيد يوشك القوم أن يتهموه في عرضه (خائن - عميل - جبان) أو الأسهل: في دينه (كافر!).

إلا إنني لن أسكت، وسأكتب ضد هذا المشهد، من أجل سودان أحببت أهله ووجدتهم أطيب وأصدق الشعوب، سودان ترى الخير في كل جوانبه لكن تتعجب كيف يقبع حكامه في أماكنهم الضيقة ولا يفلحون في تحويل أرضه لذهب.

هذا الشريان الذي تعلمنا حبه من الوريد إلى الوريد، وهذه اللُحمة الجغرافية والقومية التي رضعنا عشقها منذ نعومة أظفارنا، السودان الشعب والثقافة والتجربة العريقة والذي نشاهده اليوم يواجه مصيرا كان يستحق ما هو أفضل منه بكثير.

الحملات الإعلامية ومخاطبة الجماهير المحشودة بخطابات نارية لن تنقذ السودان، ما سينقذه حكومة إنقاذ جديدة تماما تضع القيادة السودانية أمام مسئوليتها، وتقدم المسئولين الحقيقيين عن أزمة دارفور لمحاكمة سودانية قومية ترد ملف العدل للنظام الداخلي والذي كان يمكن أن يجنب السودان قرار المحكمة الجنائية الدولية لو تم بالداخل، وسينقذه أن نتحرك من أجل تسوية دون تنازل سيادي من ناحية لكن دون غرور كراسي السلطة والجيش أبدا، كي تخرج السودان من مأزق سيكون هو بداية النهاية للعرب ولانفراط عقد الدول المجاورة بما يهدد بوضوح مصر... التي يتآمرون عليها هي الأخرى بمخططات تقسيم معروفة وقديمة.

السودان يحتاج حملات شعبية عربية لنصرته بمبادرات قانونية وليس بأمسيات تعبوية حنجرية ضد الاستعمار الجديد ومؤامراته التي صرنا نعرفها ونشمها على بعد عقد كامل، حملات ترد للسودان مركزيته على أجندة العرب، مثل فلسطين والعراق، والتي لم نتحرك لها إلا بعد أن سال دمها على قارعة الطريق وسد علينا المنافذ... فتحركنا.

السودان يحتاج إلى دعم تنموي وإغاثي سريع، وضغط عربي على النظام السوداني كي يقدم تنازلات لا للغرب وللمحكمة الجنائية بل لشعبه كي يحفظ سيادته، لأن الأمر لم يعد حفظ السيادة بحفظ كرسي الرئيس بل العكس. والسودان قادر بكوادره السياسية وفعاليته المدنية على استنقاذ مستقبله من تدخل دولي سافر بعد أن شاهدناه مستترا لعقود.

أنقذوا السودان بالديمقراطية والتمدن واحترام القوانين الوطنية والمساءلة والمحاسبة بدلا من أن تقتلوه بشعارات العسكر، فالعسكر لا يجيدون في عربستان إلا الشعارات، ومن يحارب ذودا عن الأوطان وتقتله الحروب هم نحن.

من أجل مستقبلكم... أنقذوا السودان من حملة «ضد القرار» ومن استعمار جديد خبيث يحلم ويتمنى حملة كهذه ليدوس على الأخضر واليابس، قادم على آلة مجلس الأمن، يجري كالحيوان المسعور باتجاه رائحة النفط... ولون الدم.

إقرأ أيضا لـ "هبة رؤوف عزت"

العدد 2377 - الإثنين 09 مارس 2009م الموافق 12 ربيع الاول 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً