من الإفراط في روح الدعابة والنكتة، وأحياناً السخرية المحببة واللاذعة، أن تشاهد نشرة أخبار الظهيرة في فضائية «الديار» العراقية موسومة بعنوان «شكو ماكو؟»، وهو عنوان مختلف عن بقية الفضائيات بالعراق وباقي تلفزيونات الدول العربية قاطبة، فتحة يافطة هذا العنوان أعطت «مخترعه» مساحة لمناورة غير موجودة بالمرة ولا يمكن أن تتحقق، بحيث يستطيع مذيع «النشرة الإخبارية» بالتلفزيون أن ينهيها في ثانية واحدة إذا أراد ذلك بأن يجيب، كما هو دارج عند العراقيين بلهجتهم الجميلة على هذا السؤال بالقول: «كل شيء ماكو يا به».
لكن أخبار العراق التي تتصدر النشرات في كل الفضائيات بالعالم لم تعط مجالاً لا للمذيع، ولا لمعد الأخبار، ولا لمراسلي «شكو ماكو» أن يقولوا: «لا جديد تحت الشمس» بالعامية أو بالفصحى، ولذلك فإن نشرة الظهيرة في «الديار» تستمر ساعة تقريباً بأخبار «النحر والاختطاف والتفجيرات والقتل اليومي للعلماء وأساتذة الجامعات والمسئولين والسياسيين والمارة والباعة والنساء والأطفال، بكاتم الصوت أو بالسيارات المفخخة»، إلى جانب الأخبار السياسية والاقتصادية والفنية - الثقافية والطقس بدرجات حرارته ونسبة الرطوبة الخاصة بالعراق وحده بعد منتصف نهار واحد، ولو لم «يداهمهم الوقت»، كما يردد المذيعون أثناء مقاطعتهم لضيوفهم، ربما تواصلت «الدادائية» - العبثية؛ في فنتازيات جحيم العراق لساعات من دون انقطاع، وتجد من يتسمر أمام التلفاز لمعرفة الجديد، ففي كل ثانية حوادث طازجة.
«فكل شيء ماكو» بالعامية العراقية، أو «لا جديد تحت الشمس» بالفصحى كمقولة رائجة، وهي خاطئة جملة وتفصيلاً، ليس بالنسبة إلى العراق فحسب؛ بل في الكون كله، على رغم ما يردّدها البعض «الببغاوي» من دون أن تمر على مخيخه «لدوزنتها»؛ لا توجد في القاموس العراقي الذي يعيش مرحلة المخاض الجديد، بدمها وبعنفها وبآلامها وبمتاعبها وبمنغصاتها وبتعدد أصواتها، الجميلة منها والقبيحة، التي ظهرت الآن... فكل شيء «أكو» بالعراق، لكن السؤال: إلى متى ستبقى الولادة لعراق جديد متعسرة؟
واضح أن كل المؤشرات تشير إلى أن هذه الولادة المتعسرة لعراق جديد ستطول آلامها، خصوصاً مع تصاعد العمليات الإرهابية التي وصلت إلى ذروة تعقيداتها بخلط الحابل بالنابل، وتدخلات من دول وعصابات إجرامية، وفضائيات، ووكالات كلام، ورجال دين وساسة عرب أجلوا «جهادهم» ضد الفساد والظلم في بلدانهم واستباحوا أرض العراق ليستأسدوا على الأطفال والنساء العاملات في المنظمات الإنسانية، والصحافيين والعمال وسواق الشاحنات، وظهرت «رجولتهم» تحت يافطة مقاومة المحتل بحرق آبار النفط ومحطات الكهرباء العراقية وتقطيع الرؤوس بالسيوف «العربية المحنية» من كثرة انحناءاتهم للغوغائية والأعمال الهمجية، وكأن العراق إرث أبيهم، أو إرث من خلفهم وهم أوصياء عليه وعلى عباد الله.
العراق به كمٌ هائلٌ وبلا شك، من المواجع ومن قوى طارئة تحاول الاستفراد بالساحة السياسية وعودة الديكتاتورية، من مهزومين ملطخة أيديهم بدماء العراقيين متحالفين مع الزرقاويين وإجرامهم في تدمير العراق، وهي مادة دسمة لنشرات الأخبار، لكنه في الجانب الآخر، هناك ثمة ثقة وتفاؤل بوعي شريحة كبيرة من العراقيين، وقدرتهم على التمييز بين الذي يعمل من أجل مصلحة بناء العراق، وصون كرامة إنسانيته، وبين الذي يحاول تخريبه بدورة عنف جديدة تحصد أبناءه وتدمر بنيته التحتية وتعطل مسيرته نحو الديمقراطية التعددية مع اقتراب موعد الانتخابات في يناير/ كانون الثاني العام المقبل.
ومن الآن، وحتى تتوافر الظروف المناسبة للانتخابات في موعدها المحدد في جل المدن العراقية سيشهد العراق فترته الحرجة والعصيبة، إن لم يتم استئصال بؤر الإرهابيين، وإلا فإن المجهول سيخيّم على العراقيين الذين لن يستطيعوا بعد ذلك القول: «كل شيء ماكو!».
كاتب بحريني
العدد 752 - الأحد 26 سبتمبر 2004م الموافق 11 شعبان 1425هـ