يبدو أن الملف النووي الإيراني مرشح ليكون الواجهة الأكثر جدلاً في العمل الدبلوماسي الإيراني من الآن حتى انتهاء استحقاقات الانتخابات الرئاسية الأميركية على الأقل، مادام القرار الأميركي مختطفاً وإلى حين من جانب الليكوديين الرابضين فوق قمة المحافظين الأميركيين الجدد.
وسيظل سعي شارون وجهاز مخابراته وفريق عمله الدبلوماسي هو ترويع العالم من خطر مزعوم اسمه القنبلة النووية الإيرانية! وسيدفع الإسرائيليون بكل ما أوتو من قوة لإظهار إيران وكأنها دولة لا يمكن الثقة بما تقول ولا يمكن الركون إليها بسبب «مناوراتها الدبلوماسية ومراوغتها الهادفة إلى خداع العالم» كما يشدد الإسرائيليون في كل مناسبة. في المقابل ثمة من يطرح من «عقلاء» القوم في كل من إيران وأوروبا وأحياناً بين الساسة الأميركيين ممن يطلق عليهم مجازاً المعتدلين أن المشكلة إنما تكمن في تقديم الضمانات المتبادلة التي يجب أن يستعد لها الجميع. ولكن السؤال هو: مَنْ يضمن مَنْ؟ ثم هل هي أزمة ضمانات حقاً أم هي أزمة ثقة باتت مفقودة بين الأطراف كافة؟
فإيران تريد ضماناً من أميركا عبر أوروبا بأنها، أي واشنطن، لن تقدم على ما يلغي حقها المشروع في تطوير مشروعها النووي للأغراض السلمية، على أن تقدم هي كل الضمانات اللازمة للمجتمع الدولي بعدم الاقتراب من الجانب التسليحي للملف النووي بأي شكل من الأشكال.
في المقابل فإن أميركا تريد ضمانات من إيران عبر أوروبا بأن توقف طهران جميع نشاطاتها النووية حتى السلمية منها لتقدمها بدورها إلى «إسرائيل، إلى حين التوافق مع أوروبا على كيفية التعامل مع طهران بشأن قدراتها النووية الجديدة التي كسرت احتكار الدول الكبرى للتقنية النووية.
ولما كانت الثقة مفقودة أصلاً بين طهران وواشنطن، وأوروبا تلعب دور الوسيط الانتهازي والمنافق وغير القادر على الحسم، ولا التعلم من سيناريو العراق الرديء، فإن القضية النووية الإيرانية ستظل عرضة للاهتزاز ومحل مساومات أروقة الدبلوماسية السرية أحياناً والعلنية أحياناً أخرى ورهناً بميزان القوى الذي يسمح أو لا يسمح لواشنطن بالتصعيد ضد طهران.
طهران من جهتها حسمت أمرها وهي تقول إنها باتت مكتفية ذاتياً في كل شيء تقريباً فيما يخص الدورة النووية بكل مراحلها، كما يقول أمين عام مجلس الأمن القومي الإيراني الأعلى حسن روحاني، وبالتالي فهي تحاور وتناور وتفاوض فقط من أجل تلطيف الأجواء الدولية واستناداً إلى مبدأ أن الحوار هو أنجع وسائل كسب الاعتراف الدولي. وانها لا تحبذ أساليب المجابهة والمواجهة بالمرة كما يؤكد المسئول الإيراني.
قرارات الوكالة الدولية للطاقة الذرية حتى الآن جاءت لتسجل نصف هزيمة لواشنطن ونصف انتصار لطهران.
أما أوروبا فإنها لم تحصد على ما يبدو سوى مزيد من الشك والريبة واهتزاز الثقة من جانب الطرفين المتخاصمين. هذا فيما يبقى البرادعي وهو المعني كما يفترض أكثر من غيره بالملف النووي للدولة محل النقاش، خارج دائرة الفعل المباشر إما بفعل تردده أو بفعل إغراءات المنصب والوجاهة اللذين يسعى إلى تجديدهما عبر استمالة الموقف الأميركي، حتى لا يصيبه ما أصاب بطرس بطرس غالي كما يعتقد بعض المراقبين في طهران.
وحدها العلاقة الداخلية المتينة والقوية والشفافة بين رأس القيادة الإيرانية ومجموع مطبخ صناعة القرار الإيراني مع مجموع القوى السياسية الفاعلة داخل المجتمع الإيراني بميولها المتعددة هي الكفيلة بالإبحار بسفينة الملف النووي الإيراني إلى ساحل النجاة.
المسئولون الإيرانيون يقولون إنهم لا يثقون بالإدارة الأميركية كضامن لاستمرار نشاطهم النووي، لكنهم يقولون إن المفاوضات معهم ليست مستحيلة ولدينا سابقة في الشأنين الأفغاني والعراقي، ولكن بشرط أن تخضع المفاوضات لتكافؤ فرص حقيقية.
وعلى ما يبدو فإنهم يحاولون انتزاع تلك «الظروف» من خلال الحوار الشامل والبناء مع أوروبا.
في المقابل فإنهم يقولون إن أوروبا غير مستقرة على رأي وتناور بانتهازية مفرطة تكاد تجعلنا نفقد الثقة بها. على صعيد آخر فإن طهران تؤكد أنها لن تفرِّط في الحوار كمبدأ ثابت في سياستها الخارجية وخصوصاً أنها لا تريد اقلاق المجتمع الدولي بخصوص نواياها الحقيقية من وراء إصرارها على امتلاك التقنية النووية للأغراض السلمية.
غير أن العارفين ببواطن الأمور يعرفون تماماً أن الطرف الدولي ولاسيما الأميركي منه لا ثقة له أصلاً بحقيقة نوايا طهران المستقبلية حتى لو تأكد من نواياها السلمية الحالية. من يجمع كل هذه الأضداد إذاً؟ هذا هو ما يحاوله فريق الدبلوماسية الذرية الحالي الذي يتزعمه حسن روحاني. فهل ينجح في ذلك؟ هذا ما ستحسمه الأشهر القليلة المقبلة التي ستترتب عليها نتائج داخلية إيرانية وإقليمية وربما دولية بالغة الأهمية ستجعل من طهران طرفاً دولياً فاعلاً ومؤثراً في حوادث عقد كامل من الزمان على الأقل أو ضحية جديدة من ضحايا لعبة الأمم والتي تقودها دوائر واشنطن الامبراطورية النزعة.
قال الرئيس الإيراني السابق هاشمي رفسنجاني مرة: من قال إن الوجود الأميركي على جهاتنا الأربع مصدر قوة لهم؟! أليس ممكناً أن يكون ذلك مصدر ضعف لهم؟! ثم ألا نستطيع أن نحولهم إلى «رهائن» تحت رحمتنا؟ فنحن أبناء هذه المنطقة فيما هم غرباء عنها.
قد يكون مثل هذا الكلام صحيحاً في حسابات الربح والخسارة الآنية، وحسابات الحروب الدبلوماسية والأمنية والعسكرية التي باتت مفتوحة من قندهار الى العراق إلى ضفتي الخليج المشتعلتين بالتوتر وصولاً إلى مزارع شبعا.
لكن ذلك في حسابات التنمية وقيمة الإنسان في منطقتنا قد يصبح شيئاً آخر يصعب قياسه بوحدات «الآني» من الزمان والمكان والمادة. فهل أصبحنا نحن أبناء «الشرق الأوسط الكبير» كما يحلو للأميركيين تسميتنا منذ 11 سبتمبر/ أيلول رهائن العلو الإسرائيلي وتجبره ووحشيته وجشعه اللامتناهي لسحق الإنسان وإبادته؟
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 752 - الأحد 26 سبتمبر 2004م الموافق 11 شعبان 1425هـ