الديمقراطية والشك اللذان يحكمان أسلوب جهاز الأمن العام لا يستقيمان، فالأولى تفسح في المجال أمام الجميع لقول ما يريدون وما يتلقون من معلومات، وينتخبون من يريدون من دون وصاية من أحد، وجهاز أو مديرية الأمن العام، تشك في كل شيء وفي كل انسان ولا أبرياء أمامها، فالكل متهم حتى بعد ثبوت البراءة، وهذا حقها في ممارسة دورها المنوط بها في حفظ الأمن في البلاد، وهي حينما تلتزم دورها، من دون أية زيادة أو نقصان، تكون أداة مساعدة على ترسيخ الديمقراطية، ومنع أي تخريب أو مخرب أو مغامر من الاعتداء عليها، لكنها في الوقت نفسه تكون بعيدة الى أقصى الحدود عن المؤسسات الديمقراطية ولا تتدخل بشئون مؤسسات المجتمع المدني، وتحترم الديمقراطية وتخضع لها ولا تتعدى عليها. في لبنان، بلد الديمقراطية العربي، هناك شائبة تجعل من الديمقراطية مجرد شعار لا علاقة له بما يجري في الواقع، اذ ان المديرية العامة للأمن العام هي المسئولة عن رقابة المطبوعات في هذا البلد، وهي صاحبة القرار في فسح أو منع أية مطبوعة أو كتاب، وفي لبنان أكثر من 1182 رخصة مطبوعة ما بين صحيفة يومية ومجلة اسبوعية وشهرية ودورية وغيرها من اصناف المطبوعات. ويعتبر لبنان بلد النشر في العالم العربي، وفي المعارض العربية والدولية تكون حصة الأسد لدور النشر اللبنانية، وفي لبنان أيضاً هناك أكثر من وكالة أنباء محلية، ويكاد التعاطي مع الوكالة الرسمية (الوكالة الوطنية للأنباء) يقتصر على اخبار استقبالات المسئولين، وما عدا ذلك يستقى من مصادر المعلومات الأخرى، وهناك ازدحام لقنوات التلفزيون ومحطات الاذاعة الخاصة في هذا البلد الذي تبلغ مساحته 10452 كيلومتراً مربعاً، وعدد سكانه لا يتعدى الثلاثة ملايين نسمة.
وفي لبنان وعلى رغم كل الفتن الطائفية التي شهدها منذ القرن الثامن عشر ولغاية اليوم بقي الزواج بين الطوائف على اختلافها موجوداً، وكان رئيس الجمهورية السابق الياس الهراوي دفع بمشروع قانون للزواج المدني الى واجهة الاهتمام السياسي والشعبي، لكن حراس الطوائف هبوا هبة رجل واحد في مواجهة هذا القانون، واستماتوا في الدفاع عن مؤسسات الزواج المذهبي والديني، وبقي اللبناني واللبنانية اللذان يريدان الزواج المدني يذهبان الى قبرص يعقدان قراناً مدنياً ويعودان الى لبنان ويسجلان زواجهما. وفي المحكمة يستند القاضي الى القانون القبرصي أو التركي أو اليوناني أو الفرنسي في تسجيل الزواج المدني.
وفي لبنان بقيت الكنائس والمساجد متجاورة، وكانت هي الابنية الأولى التي رممت في مناطق التهجير، وفي لبنان ايضاً صدرت قبل لوثة الحرب وأبانها كميات من الكتب التي انتقدت الممارسات الطائفية والمذهبية والكتب الفلسفية والروايات التي طرقت أكثر القضايا الدينية تعقيداً، وفي لبنان ايضا نشرت الصحف كل ما يمكن ان يقال في الأديان والمذاهب ورجالاتها، وفي الندوات دارت سجالات لا حدود لها حول الاديان كل على حدة، أو في ما يتعلق بالعلاقة بين مختلف الأديان، أو القضايا المثارة داخل الدين الواحد.
وفي هذا البلد قيل ويقال كل شيء من دون أي تدخل من قبل هذه المؤسسة الدينية أو تلك، ولا يعير المسئولون اهتماما كبيرا لما تقوله المؤسسات الدينية في ما يتعلق بالمطبوعات والمنشورات، هذا كان يجري قبل ان تصبح المـؤسسات الدينية مؤسسات وصاية سياسية على الشعب والأرض والوطن. هذا لبنان الذي كان، واليوم الأمر اختلف كثيرا، فالأمن العام يتولى الرقابة على المطبوعات، والذي يتعرض للانتقاد الدائم من قبل المثقفين والناشرين والصحافيين والكتاب والشعراء، لأنه يمارس دورا ليس له، ولأن رقابته تتعارض مع الدستور، ولأن وزارة الإعلام هي المعنية بأمر الرقابة، وهذا ما لم يحصل في لبنان.
نقول ان الأمن العام استن سنة جديدة، وهي العودة الى المؤسسات الدينية في أمر الكتب التي يرى ضرورة في ابداء هذه المؤسسات الرأي حيالها، واذا ما قالت المؤسسة بالمنع صدر قرار الأمن العام متناسباً مع رأي المؤسسة. وهذا ما حدث مع كتاب «شيفرة دافينشي» المترجم الى العربية والصادر عن «الدار العربية للعلوم»، اذ ان المديرية العامة للأمن العام خضعت لرأي المركز الكاثوليكي للاعلام ومنعت الكتاب، وهو في الأصل صدر بالانجليزية وكاتبه دان براون، وهو رواية خيالية، وترجم الى 50 لغة، وبيعت منه نحو عشرة ملايين نسخة، وهو بالتالي لا يمكن ان يهز مجتمعاً متنوعاً وراسخاً كالمجتمع اللبناني، وتفسح فيه التعددية الدينية لأكبر هامش ممكن من النقاش والحوار، وخصوصاً بعد حرب دامت 16 عاما بات بعدها اللبناني أكثر حذراً في الذهاب الى المناطق الخطرة في المواقف والحوارات، وانتجت مؤسسة للحوار بين الأديان والطوائف أصبحت اليوم تلعب دوراً مهماً في العلاقة بين الأديان.
ولهذا فإن منع الكتاب يتناقض مع أبسط الأعراف المطالب لبنان الآن بالحفاظ عليها واعادة احيائها والعمل على ترسيخها، ونقصد بذلك التسامح، ولهذا حين تقول شخصية مرموقة في الحركة الثقافية اللبنانية، وهو الأب يوسف مونس، رجل الدين والمفكر والمبدع ان: «هذا الكتاب ليس كتابا عقائديا وانما هو رواية خيالية لا تستند الى العلم ولا الى المعرفة ولا الحقائق التي ندرسها ونعرفها، واعطينا رأينا انه في مجتمع مثل المجتمع اللبناني، فإن هذه القضايا تثير الكثير من الحساسيات وتمس شعور اناس كثر ولكننا لا نطالب بمنعه»، (رويترز). حين يقول الأب يوسف مونس «اننا لا نطالب بمنع الكتاب» فهذا يدل دلالة واضحة على مدى اليقين من قوة ايمان الناس بأديانهم وعقائدهم، وبالتالي لا يمكن ان يهتز هذا الايمان بكتاب أو ثلاثة أو عشرة كتب أو حتى مئة.
لقد طرح رئيس الجمهورية اميل لحود شعار فتح صفحة جديدة، فإن أولى الكلمات التي يجب ان تكتب في هذه الصفحة هي سحب الأجهزة الأمنية من الساحة السياسية، وكف يد الأمن العام اللبناني عن الرقابة على المطبوعات وغيرها من المواد السمعية والبصرية، واعطاء المؤسسات المدنية المعنية بهذا الامر حق القيام بدورها، اذ لا يمكن ان يكون لبنان ديمقراطياً في كل شيء ما عدا الرقابة على المطبوعات، أي ان يكون ديمقراطيا ويعيش حال طوارئ وأحكاماً عرفية موروثة عن السلطنة العثمانية في المطبوعات والمواد السمعية والبصرية! أليست مهزلة أن تمنع الرواية في لبنان وتفسح في الفاتيكان؟
العدد 751 - السبت 25 سبتمبر 2004م الموافق 10 شعبان 1425هـ