كلما أمر بقرب جامع المهزع بالمنامة ذلك الحي القديم الذي كنت اسكن فيه أتحسر على الأيام الجميلة التي مضت وأتمنى أن تعود ويعود الناس على حالهم السابق. إنني لا أنسى ذلك الزمن الذي كان يتشارك فيه الناس همومهم وآلامهم إذ كان أهل ذلك الحي القديم، بل البحرين كلها، لا يفرق بين سني أو شيعي ولا عربي أو أعجمي، وكان الجميع أسرة واحدة، فأتذكر منزل الحاج محمد (ره) والذي توفي قريباً عندما كان يحيي ليلة القدر ويعمرها، وكان المشاركون في الإحياء بين السنة والشيعة لدرجة انه لا يستطيع من لا يعرفه أن يميّز أنه شيعي أو سني، لان منزله يستضيف الاثنين. وأتذكر مأتم بن سلوم الذي كان الكثير من مرتاديه من السنة، وأتذكر الشيخ بودعيج، وهو من الأسرة الحاكمة، عندما كان يتجول بين المحلات ويزور الناس من باب إلى باب بظله الخفيف ليسأل عنهم، وأتذكر جامع الشيخ قاسم المهزع الذي يصلي فيه كل أهل السوق من دون تفريق. وكلما أتذكر تلك الأيام وأقارنها بالحال الراهن أتألم، فما عاد الشيعة يصلون في مسجد قاسم المهزع ولا السنة يرتادون مأتم بن سلوم، وما عاد الحي المتآلف كما كان.
لا أريد فلسفة الأمور ولا تعقيدها، ولكن من السبب وراء وصول المجتمع البحريني الذي كان يتميز بتسامحه وانفتاحه إلى هذا الحال؟ من الذي سيستفيد من جعل المجتمع البحريني ممزقاً ومختلفاً؟ في مصلحة من سيصب تأجيج النعرات الطائفية والعرقية؟ هل هي القوى المحلية، الإقليمية أو الدولية؟ أم سنتهم وكعادتنا الإمبريالية والقوى الخارجية التي نلقي دائماً عليها كل أخطائنا؟ هل لصالح «إسرائيل» التي جعلناها شماعةً لجميع مشكلاتنا؟ أم الحكومة التي لو دهس عجل في البر لاتهمت بأنها تقف وراء الحادث؟ أم هي مصالح داخلية وإقليمية لها صله بصراع النفوذ الإقليمي؟ أم الأحزاب السياسية التي لعبت دوراً كبيراً في تمزيق الأمة هي السبب الرئيسي؟ أليست هي تلك القوى التي استطاعت أن تنفذ إلى المجتمع البحريني باسم القومية حيناً وباسم الطائفة والإسلام حيناً آخر؟
أذكر على سبيل المثال لا الحصر، الدور القذر الذي لعبة البعثيون إبان الحرب العراقية الإيرانية لدعم حزبهم وقائدهم السفاح صدام حسين، ومحاولتهم ضرب كل ما له صلة عرقية أو مذهبية بإيران، حتى لو كان من المركّبات الأصيلة للمجتمع البحريني، باسم القومية والعروبة التي سرعان ما انكشف زيف ادعائهم عندما غزا بطلهم جارته الكويت لمد نفوذه ليكشف بذلك كل الأوراق التي حاولوا ولزمن طويل إخفاءها، لطالما لعبوا دور العنصر الضاغط تنفيذاً لسياسات وأوامر حزبهم. ومن جانب آخر أليست الأحزاب والتوجهات الدينية عاملاً رئيسياً في الزج بأبناء الشعب البحريني في معادلة النفوذ والصراع بين المد الإسلامي الشيعي المتمثل في إيران والمد السني المتمثل في السعودية؟ لماذا نرى أبطال الانتماءات السياسية بالأمس تدعو إلى الثورية والتحرر يدافعون عن الحكومات اليوم؟ هل ثبت لهم خطأ فكرهم أم لان حزبهم في الخارج تفكك ولم يعد قائماً وقادراً على ضمان مصالحهم فتحولوا إلى مواقعهم الجديدة كتغير نفعي أو استراتيجي؟
بات من المحسوم اتهام الأيدلوجيات المريضة التي قبرت الكثير منها ويحتضر المتبقي بالوقوف خلف تمزيق هذه الأمة فكرياً وأدلجة الخلاف وإعطائه الصبغة الطائفية أو الحزبية، إذ إن السلطة لم تكن قادرة ولا من صالحها إيجاد قنوات ارتباط سياسي أو ميداني بين الافراد الذين تحكمهم وبين الأحزاب والحركات الداعية إلى السيطرة والتي بدورها أسست خلايا عسكرية هدفت إلى الجلوس على كرسي الحكم وفرض الأمر الواقع. فمثلاً الحزب الشيوعي السوفياتي الذي كان ينتمي الكثير من الحركيين البحرينيين أو الحزب البعثي والذي نظم اعضاؤه البحرينيون عدداً من مظاهر اعلان انتمائهم واستغلوا البحرين كورقة في معادلاتهم واتزاناتهم الاقليمية التي كانت تصبّ في مجرى أحزابهم وبعيداً عن المصلحة الوطنية للبلاد.
ما عادت تلك الأحزاب اليوم موجودة على الخريطة السياسية، فلا عبدالناصر ولا صدام حسين ولا الحزب الشيوعي يشكلون رقماً مؤثراً في الحسابات السياسية أو العسكرية، ولكن لايزال بقاياهم يحاولون أن ينفثوا سمومهم في المجتمع. وللأسف انهم نجحوا في الحصول على آذان صاغية لادعاءاتهم لانهم برعوا عبر السنوات الطويلة في فهم نقاط ضعف المجتمع البحريني والولوج منه، ويؤلمنا أن اللعب على الذقون اصبح لعبة الإعلام العربي المريض لتخرج هذه الفضائيات كل يوم علينا بوجه جديد ولتصنع أبطالاً جدداً يصفقون خلف الأوبئة ليقنعوا الناس بأنها مفيدة، ما يشهد على تفاهة بعض المؤسسات الإعلامية التي تصنع الفكر وتنميه وتؤثر على متلقيه.
وهنا أقف لأدعو المفكرين والمثقفين المخلصين إلى أن يجتهدوا وأن لا يصابوا بالإحباط، فالمعركة في بدايتها وسيبقى المتطرفون وأصحاب الفكر السرطاني يتنفسون الصعداء ما دمتم لم تعلنوا الحرب عليهم. إن الوقت المناسب الذي ننتظره لإعلان الحرب على التطرف قد حان، وخصوصاً في ضوء الوضع الاستثنائي الذي تعاني منه المنطقة والمستجدات فيها، كتغيير النظام في العراق وإعادة توزيع الأدوار بين الحركات الإسلامية مع عودة النجف إلى حساب الطائفة الشيعية وسقوط طالبان والتوجه المتطرف من حسابات الطائفة السنية، إلى جانب تحول العراق إلى مصنع جديد للتيارات بعد اضمحلال الفكر القومي والشمولي في الدول العربية قاطبةً ودخول اللاعب الأميركي على الخط وبقوة. كل هذه المتغيرات تجعلنا نعتقد بحلول الوقت المناسب للحرب على التطرف الفكري ودعم الإسلام المعتدل والتوجه الذي يجعل المواطن مركز حركته وسكونه.
ترى وبعد كل هذا التغير الكبير الذي طرأ على تركيبة المجتمع الدولي والإقليمي هل سيعود جيران جامع قاسم المهزع في المنامة إلى حالهم السابق؟ هل سينعمون بحال افضل مما هم عليه؟ وهل سنشاهد اختلاط الناس في هذا الشارع بعيداً عن الطائفة والأصل كما كانوا في السابق؟ وهل سنشاهد أبناء الطائفتين وبأعراقهم المختلفة يجلسون في مكان واحد ويتشاركون القرار واللقمة والمستقبل بعيداً عن معتقداتهم وانتماءاتهم السياسية أو الفكرية؟
ناشط حقوقي
العدد 750 - الجمعة 24 سبتمبر 2004م الموافق 09 شعبان 1425هـ