التصفيق المتواصل الذي تلقاه رئيس الحكومة العراقي المعيّن إياد علاوي من الكونغرس الأميركي بمناسبة إلقاء كلمة تشيد بالانجاز (الاحتلال) الذي نفذته «قوات التحالف» ضد بلاد الرافدين هو أقرب إلى الفضيحة السياسية. فالتصفيق شكلاً يذكّر بذاك البرلمان العراقي المعيّن الذي كان يهلل ويبارك لكل كلمة يلقيها بطل «قادسية صدام» و«حارس البوابة الشرقية». والتصفيق مضموناً هو نوع من التأييد الواضح لتلك السياسة العدوانية التي أسستها «كتلة الشر» في البنتاغون وجعلت منها استراتيجية أميركية قوّضت الكثير من المواثيق الدولية.
علاوي اعتقد أن التصفيق المتواصل من قبل الكونغرس هو تحية له وحب به وإعجاب بأفعاله بينما الواقع يشير إلى أن التصفيق هو رد على تلك الانتقادات الداخلية لسياسة الحروب الأميركية، وهو أيضاً صفعة للحزب الديمقراطي الذي ينافس مرشحه جون كيري الرئيس الأميركي على منصبه. علاوي في هذا المعنى «لا ناقة له ولا جمل» بل هو مجرد شاهد على واقع سيئ أريد منه أن يقدم إفادة حسنة عنه. وهذا ما فعله.
انه نوع من الاستخدام المزدوج. فالرئيس جورج بوش قاد عملية انقلاب عسكري ضد صدام حسين، وقوّض دولة العراق، وأطلق دوامة من العنف الدموي، واتخذ من بلاد الرافدين محطة لانطلاق جيوشه، وبدأ يهدد دول الجوار، ويعبث بأمنها الوطني، ويتدخل في شئونها الداخلية مستفيداً من وجوده في بغداد... إلى آخر التداعيات التي حصلت ويريد أخيراً أن يأتي «الشاهد» ليشهد أمام الكونغرس أن الوضع ممتاز وليس كما تصوره وكالات الأنباء ومحطات التلفزة.
كلام علاوي أمام الكونغرس هو محاولة رد اعتبار لسياسة أميركية اتفق دولياً على أنها خطيرة وتهدد أمن «الشرق الأوسط» وتوازن المصالح وربما السلم الدولي في حال استمرت وفق الاعتبارات التي اختلقتها واشنطن سابقاً. وكلام علاوي في مناسبة التصفيق في الكونغرس هو رد على تصريحات وخطب وبيانات الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان الذي كرر حديثاً خطورة الموقف الدولي والإساءة التي جلبتها التجاوزات الأميركية على المواثيق والمعاهدات التي تفاهمت عليها «الأمم المتحضرة» أو تلك التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية.
كلام الأمين العام للأمم المتحدة أثار غضب الولايات المتحدة لأنه كشف ومن موقعه المهم أن تلك السياسة التدخلية التي اتبعتها إدارة البيت الأبيض أوجدت قواعد عمل تخالف كل تلك التفاهمات الدولية وأعطت شرعية (إشارة سيئة) للدول باتباع سياسات غير متوافقة مع النظام الدولي.
هذا الكلام ردت عليه إدارة بوش من موقع ضعيف، واعتبرته نقطة لمصلحة المنافس الديمقراطي على الرئاسة. لذلك استدرجت واشنطن الرئيس المعين في بغداد إلى الكونغرس للرد بأسلوب غير مباشر على مضمون تلك الملاحظات.
السؤال ليس هنا. فهذه مسرحيات متفق عليها وأحياناً تكون منظمة لتمرير وجهات نظر وتسويق مشروعات خاصة بهذا الحزب أو ذاك.
السؤال هو «ماذا نفهم من كل تلك الإشارات المضادة والمتضاربة؟».
الرئيس بوش يريد أن يقول «إن سياسته صحيحة» و«إنه لم يندم على ما فعله» وإنه «هو على الصح وغيره على الخطأ» وإنه «سيستمر في تلك الاستراتيجية» وان «أميركا تقود العالم وليس العالم (الأمم المتحدة) يقود الولايات المتحدة» وانه في حال أعيد انتخابه لرئاسة ثانية سيواصل ما بدأ به في الدورة الأولى. فإعادة الانتخاب تعني له وللكونغرس تجديد الثقة باستراتيجيته الهجومية والتقويضية.
هذه هي النقاط (الرسالة) التي بعثها بوش من خلال التصفيق المتواصل الذي أحدثه أعضاء الكونغرس حين كان علاوي يلقي كلمته. والرسالة هي لن نعتذر عما فعلنا، وسنواصل الطريق الذي بدأ في أفغانستان واستقر مؤقتاً في العراق.
في هذا المعنى بوش لا يكذب فهو صريح في برنامجه ولم تتردد إدارته في إعلان نواياها. فهي بكل وضوح تتدخل في الشئون الرئاسية اللبنانية. وهي طالبت العالم بعزل ياسر عرفات وتعيين بديل عنه بذريعة انه عقبة في وجه قيام دولة فلسطينية. وهي أعطت كميات ضخمة من أحدث الأسلحة والصواريخ و«القنابل الذكية» لحليفها الرئيسي «إسرائيل»... وهي تحرض الاتحاد الأوروبي على إيران لوقف مشروعها في بناء مفاعل لإنتاج الطاقة السلمية.
تصفيق الكونغرس لشاهد الزور أعطى ثلاث إشارات واضحة: الأولى ضد جون كيري. والثانية ضد كوفي عنان و«النظام الدولي». والثالثة ضد الشعب الفلسطيني والدول المجاورة للعراق
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 750 - الجمعة 24 سبتمبر 2004م الموافق 09 شعبان 1425هـ