العدد 749 - الخميس 23 سبتمبر 2004م الموافق 08 شعبان 1425هـ

اختلاف الزمن والفقه الخلافي

الاجتهاد المعاصر

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

ليس جديداً أن الإسلام يتعرض إلى هجمة دولية تقودها قوى تملك السلاح والمال والمعلومات والإرادة ضد كتلة هلامية من البشر تنتشر في ثلاثة أرباع الكون ولا تملك تلك الإرادة الواعية التي تشدها إلى وحدة مشتركة تخفف من مخاطر الهجمة.

الهجوم على الإسلام ليس جديداً كذلك عدم إدراك المسلمين لمصادر قوتهم وثروتهم. الغرب يعلم أن الإسلام هو أقوى مصادر القوة عند المسلمين بينما العالم الإسلامي بات في وضع يعتبر نفسه في موقع الضعيف. والعاجز في حقول الاقتصاد والمال والسياسة والمعلومات والسلاح هو في طبيعة الحال غير قادر على تكوين تصور خاص (مفارق) للرد على تلك الهجمة الشاملة التي تطاول مختلف الأنظمة من ثروة واقتصاد وتربية وثقافة وتعليم.

وهذا الضعف العام الناتج أصلاً من مجموعة عوامل موضوعية وتاريخية إضافة إلى عجز المنطقة عن اكتشاف عناصر قوتها ووحدتها وتماسكها أفسح المجال لظهور حركات فوضوية ومجموعات سرية (مشبوهة) تمتهن الخطف والقتل باسم الإسلام وتسهم في تأليب كل القوى ضد المسلمين.

هذه المجموعات استفادت كثيراً من بلبلة المسلمين الناتجة عن غياب مرجعيات مركزية توحد التوجهات الأمر الذي أفسح الطريق لحفنة من المجهولين الافتاء باسم الإسلام وتوريط المسلمين في تحديات أكبر منهم.

استمرار تجاهل المشكلات وعدم القدرة على الرد على الاستفزازات الداخلية والهجمات الخارجية يسهمان في تعزيز تصورات تلك الحفنة من القتلة ويعطل لاحقاً إمكانات الخروج من مأزق تاريخي يعيشه المسلمون منذ أكثر من 500 سنة. واستمرار التجاهل لا يلغي المسئولية وإنما يضاعفها وخصوصاً في الجانب الثقافي الذي يقتضي الرد على «فتاوى» المجهولين باجتهاد معاصر يستوعب منهجياً (معرفياً) مختلف تلك التحولات التي طرأت في القرون الخمسة الأخيرة.

الاجتهاد في الإسلام لم يتوقف إلا ان أدوات الاجتهاد لم تتطور منذ قرون. فالنصوص هي ذاتها إلا ان إعادة شرحها وتفسيرها وتأويلها واستخراج الأدلة المعاصرة منها تحتاج إلى منهجية جديدة في التفكير تتناسب مع ظروف حالنا وواقعنا. وهذا الوعي الجديد لا يأتي إلا من إعادة تأسيس فقه معاصر يستوعب كل المستجدات التي فاتت العلماء في العصور الماضية.

ابن خلدون أشار في «مقدمته» إلى أن الوقائع المتجددة (الجارية) أو ما يسمى المصالح المرسلة «لا توفي بها النصوص» (ص 477). ولهذا السبب وقع الخلاف قديماً بين الأئمة وانقسم الفقه إلى طريقتين: أهل الرأي والقياس وأهل الحديث.

وحين جاء الإمام محمد بن ادريس الشافعي مزج بين الطريقتين إلى أن توقف التقليد عند أهل السنة عند أربعة وهم: أبو حنيفة، مالك بن أنس، الشافعي وأحمد بن حنبل.

وعلى أساس هذه المذاهب الأربعة إضافة إلى مذهب «أهل البيت» الذي تميز بفقه خاص، ومذهب «طائفة الظاهرية» التي أنكرت القياس وأبطلت العمل به تم وضع أصول الفقه وتطور لاحقاً إلى مدارس فرعية نسبت إلى مؤسسيها.

المهم في أصول الفقه هو ما قاله ابن خلدون فهو يعتبره «من أعظم العلوم الشرعية» لأنه ينظر «في الأدلة الشرعية من حيث تؤخذ منها الأحكام والتكاليف» (ص 484). وعلى هذا يقسم ابن خلدون الفقه إلى نقلي وعقلي وخلافي ووجودي (واقعي) وتطوري (تاريخي) ووظائفي (دستوري). فالفقه من شروط قيام الدولة ولابد منه لأنه يعكس «صورة العمران» أي مستوى تطورها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي.

الفقه هو دستور الدولة. والدولة من دون دستور هي فوضى لا قاعدة لقيامها ولا ضوابط قانونية تتحكم بنزوعها نحو الاستبداد. وبسبب أهمية الفقه (دستور المسلمين) اشتغل الأئمة والعلماء على تطوير قواعده فبرز من الشافعية الإمام الجويني في كتابه «البرهان» والإمام الغزالي في كتابه «المستصفى». وبرز من المعتزلة المتأخرين القاضي عبدالجبار في كتابه «العهد». وبعد هؤلاء جاء الإمام فخرالدين الرازي (ابن الخطيب) فلخص الأوائل في كتابه «المحصول» ومال فيه إلى الاكثار من الأدلة والحجج. وفعل الأمر نفسه سيف الدين الآمدي في كتابه «الاحكام» ومال فيه كما يقول ابن خلدون إلى تحقيق المذاهب وتفريع المسائل.

وبجهود الرازي (فخرالدين) والآمدي أسس العلماء والفقهاء والأئمة من أمثال الأموي والأرموي والقرافي والبيضاوي وابن الحاجب مجموعة طرق أثرت أصول الفقه إلى أن برز الدبوسي (من المتقدمين على مذهب الأحناف) والبزدوي (من المتأخرين الأحناف) فأعطيا الجديد على تلك التنويعات إلى أن جاء ابن الساعاتي (من فقهاء الأحناف) فجمع بين الآمدي والبزدوي في كتابه «البدائع».

يعتبر ابن خلدون كتاب «البدائع» من «أحسن الأوضاع وأبدعها» (ص 488) إلا انه يتجاهل الإمام الشاطبي في مقدمته ولا يشير إلى إنجازاته بسبب خلافاته الشخصية معه. واستبعاد الشاطبي من مقدمته يعتبر من أخطاء ابن خلدون ونواقصه نظراً للدور المميز الذي قام به على مستوى تطوير المذهب المالكي والإضافات التي قدمها عموماً لتحديث الاجتهاد في عصره.

وضع الشاطبي 13 قاعدة أصولية اتبعها بشروح لتوضيح أسس علمه والقواعد التي اختطها لتمييز المسائل. بعدها انتقل إلى الأحكام الخمسة (الشرعية والوضعية) وحدد مباحثه التي تعتمد على قواعد منهجية وهي: المشترك، الخاص، العوارض، التشابه، النسخ، الأوامر، النواهي، الخصوص، العموم، الإجمال، والبيان.

بعد أن وضع الشاطبي القواعد الكلية معتبراً الكتاب هو أصل لجميع الأدلة ورأى أن السنة لا تخرج في أحكام التشريع عن كليات القرآن أخذ بتأسيس منهج المقاصد من خلال ضم آية إلى آيات، وحديث إلى أحاديث، وأثر إلى آثار لينتهي إلى ضبط الأحكام واستخلاصها من سلسلة أدلة جامعة. فالمنهج التوحيدي - المقاصدي الذي أسسه الشاطبي يعتبر إضافة مهمة على ما اتفق عليه الفقهاء سابقاً واختصروه في الكتاب والسنة والإجماع والقياس.

كتاب «الموافقات» للشاطبي فتح الاجتهاد على أنواع أصولية جديدة وحدد وسائل وإضافات لاستنباط الأحكام من أدلة الشريعة والاستدلال بموارد الشريعة والاحتكام إلى الوجوه العقلية ومباحث العلماء والفقهاء.

يلاحظ أن الفقه ليس موحداً. فهناك مسائل خلافية وهي التي احتج بها كل فقيه للدلالة على صحة مذهبه، إلا ان ذلك ليس اختلافاً في الخطاب الشرعي. فالشريعة أساساً مبنية على مراعاة المصالح تحت سقف نظام عام لجميع البشر ولكن أحكامها تراعي أيضاً «مجرى العوائد المستمرة» و«اختلاف العوائد» أو المصالح المرسلة وبالتالي كانت لكل عادة حكمها أي ترجع إلى أصل شرعي يحكم به عليها.

هذا التنوع يسميه ابن خلدون «علم الخلافيات» وبرأيه أنه مفيد «في معرفة مآخذ الأئمة وأدلتهم». وهو الأمر الذي دفع ابن الساعاتي إلى جمع «الفقه الخلافي» في مختصره في أصول الفقه.

اختلاف الزمن فرض اختلافات في الاجتهاد ودفع العلماء إلى تطوير الأدوات والمناهج. والاختلاف في الإسلام ليس جديداً. الجديد هو هذا التراخي والإهمال والإحباط والبلادة الفكرية وعدم الاستجابة للتحديات وترك الأمور فالتة لتتخبط بها مجموعات الفوضى وفتاوى منظمات سرية تمتهن الخطف وتحترف القتل باسم الإسلام والمسلمين.

إن الرد على هذه الهجمات والجرائم لا يكون بالاعتذار فقط، أو وضع الرؤوس تحت الرمال وإنما باستنهاض القوى لإعادة الحياة لروح الاجتهاد في الإسلام. وهذا لا يتم بتكرار ما قيل سابقاً بل بتطوير أصول الاجتهاد المعاصر (مناهج البحث والمعرفة) اعتماداً على جهود السلف وما اعتمدوه من ذرائع لتطوير أدوات الفقه واستنباط الأدلة لتكون مناسبة ومتناسقة مع «العوائد المستمرة» و«اختلاف العوائد» وتطور الزمن وتنوع الظروف وتعدد الثقافات والأنماط

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 749 - الخميس 23 سبتمبر 2004م الموافق 08 شعبان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً