العدد 749 - الخميس 23 سبتمبر 2004م الموافق 08 شعبان 1425هـ

منهج التأصيل النظري في فكر الإمام الصدر (3)

عبدالجبار الرفاعي comments [at] alwasatnews,.com

مفكر اسلامي عراقي

في ضوء هذا المنهج تغلب الشهيد الصدر على المشكلات المنهجية التي كان يمنى بها الباحثون في الفكر الاقتصادي الاسلامي، إذ تتجه ابحاثهم نحو الاتجاه التجزيئي، فتتعامل مع التشريعات الاقتصادية في الاسلام بأسلوب متجزأ مفكك، فتارة تكثف النظر على بعض الادلة الشرعية التي تقرر احد اشكال الملكية كالملكية الفردية، مع قطعها عن سائر الادلة التي تقرر الاشكال الاخرى للملكية، فتقوّلها لتزعم ان المذهب الاقتصادي في الاسلام يتطابق مع المذهب الرأسمالي، وتارة اخرى تنحو هذه الابحاث منحى آخر، زاعمة ان الاقتصاد الاسلامي اقتصاد اشتراكي.

بل ان الدراسات الموضوعية الاصيلة التي اعتمدت المنهج التجزيئي، وحاولت ان تثبت وجود نظام اقتصادي اسلامي، لم تتمكن ان تتقدم خطوة واحدة الى الامام، وتؤصل الهيكل العام والاركان الاساسية لهذا النظام. بينما تغلب الشهيد الصدر على هذه المشكلة المنهجية في ضوء الاتجاه المنهجي العام الذي ترسم خطاه في تمام اعماله، والذي يهدف لتجاوز اسلوب الدراسات التجزيئية في الفكر الاسلامي، وتبني اسلوب النظرة الكلية الموضوعية، وما تنتهي اليه هذه النظرة من تأصيل الموقف النظري العام للاسلام من شئون الحياة الاجتماعية المختلفة.

وأحسب ان تبني هذا الاسلوب الذي ينظر للاسلام ككل مترابط متسق متوازن، في الدراسات الفقهية، والقرآنية - بل حتى التاريخية، سيحقق للفكر الاسلامي فتوحات مهمة، وينقله نقلة كبيرة الى آفاق جديدة لا يمكن ان يصلها لو ظل يتحرك في اطار النظرة التقليدية التجزيئية.

لقد ارسى الشهيد الصدر اسس المنهج الموضوعي في دراسة الاسلام، فكانت اعماله مرآة ناصعة تتجسد فيها خطوات هذا المنهج وتنتهي الى قطف ثمراته. ويبدو انه كان يستشرف مستقبل الاسلام في هذا العصر، فيبصر ما يلوح في الافق البعيد من تحديات معرفية معقدة، واشكالات فكرية متنوعة تثيرها مستجدات الحياة مع توالي الايام، وتراكم المشكلات في حياة المجتمعات المعاصرة. وكان يعرف بدقة عدم قدرة الاسلوب التجزيئي في الدراسات الاسلامية في الوفاء بالمتطلبات الراهنة في الحياة الاسلامية.

ولذلك حرص على اشاعة تقاليد هذا الاسلوب المبتكر في الدراسات الاسلامية، فاهتم بتعميم تطبيقاته مع تمادي الايام في خارج دائرة الفقه الاقتصادي، فمثلا حث على تنبيه في دراسة وقائع التاريخ الاسلامي والسيرة الشريفة لأهل البيت عليهم السلام، وألمح الى النتائج والآثار العظيمة التي سيفصح عنها اعتماد هذا الاسلوب، باعتباره يقوم على اكتشاف الترابط والانسجام بين اعمالهم، ونفي ما قد يبدو من تباين واختلاف بين ادوارهم وطبيعة الاهتمامات التي تجلت في سلوكهم.

وأفصح عن هذا الاتجاه بأنه: «الاتجاه الذي يتناول حياة كل امام ويدرس تاريخه على اساس النظرة الكلية بدلا من النظرة التجزيئية، اي ينظر الى الائمة ككل مترابط، ويدرس هذا الكل وتكتشف ملامحه العامة، واهدافه المشتركة، ومزاجه الاصيل، ويفهم الترابط بين خطواته، وبالتالي الدور الذي مارسه الائمة جميعاً في الحياة الاسلامية... حين نحاول اكتشاف الخصائص العامة والدور المشترك للائمة ككل، فستزول كل تلك الاختلافات والتناقضات لانها تبدو على هذا المستوى مجرد تعابير مختلفة عن حقيقة واحدة، وانما اختلف التعبير عنها وفقاً لاختلاف الظروف والملابسات التي مر بها كل امام وعاشتها القضية الاسلامية والشيعية في عصره عن الظروف والملابسات التي مرت بالرسالة في عهد آخر، ويمكننا عن طريق دراسة الائمة على اساس النظرة الكلية ان نخرج بنتائج اضخم من مجموع النتائج التي تتمخض عنها الدراسات التجزيئية، لاننا سنكتشف الترابط بين اعمالهم».

وفي بحوثه التالية التي ألقاها على مجموعة من تلامذته في فترة تلت تاريخ كتابته لهذه الكلمات، اعتمد هذا الاتجاه في دراسة وتحليل حياة اهل البيت (ع)، وبيان الدور المشترك لهم في التاريخ الاسلامي، وهكذا نراه يسعى لتعميم المنحى الذي يعتمد على انتزاع نظرة عامة وبناء نظرية واضحة في تفسير وقائع حقبة اساسية في التاريخ الاسلامي، فيتوسع في استخدام ادوات المنهج الموضوعي النظري في ميدان آخر من الدراسات الاسلامية.

ويظل هذا المنهج في البحث هو السمة البارزة التي تطبع اعمال الشهيد الصدر اللاحقة، فلا يغيب عنه وهو يستعد لتدوين رسالة فقهية لعمل مقلديه، فينعكس تأثير هذا المنهج بنحو جلي في تقسيمه المبتكر لأحكام الشريعة الاسلامية، على ضوء ترابطها ومدلولاتها السلوكية العملية في حياة الانسان.

وربما كان الاتجاه الموضوعي في تفسير القرآن هو ابرز نموذج تجلت فيه بشكل واضح ودقيق

حدود وتفاصيل هذا المنهج، والذي افصح عنه الشهيد الصدر في دروس التفسير التي القاها على مجموعة كبيرة من طلاب العلوم الاسلامية في النجف الاشرف العام 1399هـ (1978م).

ولا نعدو الحقيقة اذا قلنا: انها اول محاولة لتأسيس اتجاه جديد في تفسير القرآن الكريم، واشادة اسس ومعالم منهج لاستباط مواقف القرآن الكريم من مختلف المشكلات الاجتماعية التي يعيشها الانسان.

وان كانت الدراسات القرآنية لم تعدم من قبل بعض التطبيقات الممتازة لهذا المنهج، كما نلاحظ ذلك في بعض دراسات الشيخ محمد عبدالله درّاز، لكن الرائد الاول في ارساء الاساس النظري، وبناء المعالم الدقيقة، وترسيم الحدود الواضحة، وصوغ نظرية متكاملة الابعاد، هو السيد الشهيد الصدر.

بدأ الشهيد الصدر تأصيل الاتجاه الموضوعي في التفسير، وتوسع في بيان المبررات الموضوعية والفكرية لايثاره على التفسير التجزيئي، وانتهى بعد اشادة الاركان النظرية لهذا الاتجاه، لانتخاب موضوع «سنن التاريخ في القرآن الكريم»، كنموذج تطبيقي تتجسد فيه المعالم العملية لنظريته التي صاغها، وكان يأمل ان يطرق عدداً آخر من موضوعات المهمة، لولا ان امتدت يد البغي والجريمة الى هذا المفكر العظيم، وهو لم يفرغ من اتمام مشروعه، وان كان مشروعه لن ينتهي ابداً، كما يلوح لنا في مستقبل تطور الفكر الاسلامي الحديث

إقرأ أيضا لـ "عبدالجبار الرفاعي"

العدد 749 - الخميس 23 سبتمبر 2004م الموافق 08 شعبان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً