استطاعت الشعرية العربية خلق وتكريس تاريخٍ مستقر من التلقي استمرّ لقرون متعددة. وبالإمكان معاينة ذلك، عبر سياقين كليين. الأول كان التلقي العام الرسمي الذي كرسته السلطة المستقرة في دمشق ثم في بغداد، وتناسل إلى مختلف الإمارات والدويلات، وعلينا أن ننتبه إلى أنّ مصطلح السلطة يتجاوز مفهوم السلطة السياسية إلى الأشكال الأخرى للسلطة وعلى وجه الخصوص السلطة الدينية التابعة للسلطة السياسية أو التي تقاطعت مصالحها معها. أمّا الثاني، فكان التلقي الشعبي الذي عملت السلطة بمختلف أشكالها على قمعه وتهميشه. مع التأكيد أن التلقي سواء كان تابعًا للسياق الأول أو معارضًا له ليس له علاقة فيما نتعرض له بالناحية الجمالية كقيمة.
في السياق الأول، كان التلقي يعتمد، في بعض صوره، على إلقاء القصيدة من قبل منتجها على مسمع ملك أو أمير. ومن ثم تأخذ القصيدة دورَها ضمن جوقة مهيمنة من علماء اللغة والبلاغة عبر الشرح والتفسير والتأويل لتستقر ضمن الذاكرة الجمعية، وتغدو بعد ذلك علامة شعرية مهيمنة ضمن علامات كثيرة غيرها. أمّا في السياق الثاني، فقد كانت هناك صور أخرى من التلقي مغايرة بشكل كبير، وبعضها استمرّ في حضوره وتناسلت علاماته إلى يومنا هذا، مثال ذلك ما تنقله الروايات في وصف حال التهيؤ والاستعداد لسماع قصيدة معينة بصورةٍ تتغيّا البكاء ذاته، كما هي الحال مع الإمامين الصادق والرضا (ع). على أن البحث في هذا الجانب لا ينفصل عن النظر إلى إشكالات تكوّن التاريخ والفرق الإسلامية التي حاولت بشتى السبل المحافظة على أتباعها من الفناء ضمن حملة القمع الشرسة التي مورست ضد المخالفين للسلطة المركزية في دمشق وبغداد؛ لذلك نستوعب كيف أن الأئمة من أهل البيت كانوا يبذلون جهدًا هائلاً لإحلال حال البكاء وتكريسها عبر شتى السبل والوسائل، وكان الشعر معينًا كبيرًا على تكريس ذلك. ولنا أن نتذكر الروايات والأحاديث التي تربط بين الباكي بل والمتباكي وبين الحسين الشهيد، فكان تلقي الشعر بهذه الصورة يلعب دورًا كبيرًا في تعضيد الحال الوجدانية عند الجمهور العام المرتبط بهم. وقد استمر ذلك على هذا النحو من التصاعد إلى أن وجدنا أن ثمة مجالس تعقد بصورة مستمرة لهذا الغرض، فهذا الشاعر ديك الجن الحمصي له قصائد «يناحُ» بها على الحسين، وعلى ما يبدو فإن مثل هذه القصائد كانت معروفة عند العامة من الناس، وهذا ما يفهم من سياق الرواية التي تنقل ذلك. وهنا نجد أن حال التلقي هذه أصبحت تتجاوز مجرد استثمار هذه اللحظة سياسيا ودينيا إلى جعلها لحظة شعرية وجودية لا غنى للإنسان نفسه عنها، فتغدو معادلة لكيانه الخاص.
نجد، أيضا، صورة أخرى من التلقي - ضمن السياق نفسه - تحاول الصعود بمثل هذه النصوص إلى مرتبة «المقدس»، ومثال ذلك ما ينقل عن الصادق (ع) من قوله لأحد شعرائه واسمه عبدالله بن غالب: إن مَلَكًا يلقي عليكَ الشعر، وإنني أعرف ذلك المَلَك. وهناك صورة أخرى للتلقي اختصّ بها السياق العرفاني الصوفي، وهي صورة اعتمدت التواصل مع المتلقي بما يحدث عنده حالة من الفرح الشديد أو الحزن الشديد، ولها طقوسها الخاصة بها في التغني بالنص الشعري أو التباكي به. وفي جانب آخر من هذا التلقي، تمّ اللجوء إلى آلية الغموض، وهي آلية خاصة بالنص نفسه، تتيح إمكان لجعل النص قابلاً للتداول من قبل المتلقين بصورة مستمرة ومتصاعدة.
هذان السياقان الكليان، بمختلف صورهما، هيمنا بصورة كبيرة جدًّا على تاريخ التلقي العام للشعر. وسنجد فيما هو آتٍ إن، شاء الله تعالى، كيف أن علاقة كبيرة تربطهما بالتلقي المعاصر عبر لحظة الاتصال والانفصال، فوجدنا أن ثمة أشكالا جديدة تخلّقت، وأخرى مازالت محافظة على صيغها المتوارثة
العدد 748 - الأربعاء 22 سبتمبر 2004م الموافق 07 شعبان 1425هـ