«الأسرة الدولية قلقة ليس فقط من خطر الإرهاب على العراق وإنما هي أيضاً خائفة من سياسات في بال بعض صقور البنتاغون وفي بال «إسرائيل» تستهدف إيران وسورية وتستخدم العراق نقطة انطلاق لهذه السياسات. فاستخدام العراق للانطلاق منه لقلب أنظمة دول الجوار بالقوة العسكرية». راغدة درغام («الحياة» 17 سبتمبر/ أيلول 2004).
يبدو لنا جلياً وواضحاً وضوح شمس النهار التي لا تحجبها الغيوم ولا الأدخنة المتصاعدة من فوهات المدافع أو الأغبرة التي تُطيرها هنا وهناك فلول القوات الغازية المحتلة أو تلك المسماة بالقوات الوطنية التي تناضل ضد الشعب الذي يطالب بحريته من محتل أتاهم غصباً دون دعوة أو تفويض منهم على ظهر دبابة أو في جوف طائرة هي تماماً كما الأشباح لا تظهر إلا في عتمة الليل يكتنز جوفها بما صنعته أيادي الجنون والغطرسة ليخلصهم من ديكتاتور واحد لا يماثله أحد في من لبس لبوس فكره ليهديهم ديكتاتوريين بالجملة من نوع آخر: أظهر وبان عليك الأمان يحميك الشيطان.
نقول يبدو أن العرب مازالوا شعباً لا يقرأ، ولربما أضحى شعباً يقرأ المواجع ويعرف جيداً نطق الأبجدية، تحكمه حكومات لا تقرأ ولا تريد لأحد أن يقرأ لها وإن هي لا سمح الله سمحت لأحد ما أن يقرأ لها فليس مسموحاً له البتة أن يفسر لها ما يقرأ فهي ترى ما لا يراه القراء والمفسرون ودهاة الشعب المسمون بالمواطنين.
ما الذي يجعلنا نسطر ديباجة مثل هذه الديباجة التي أصبحت كالإسطوانة المشروخة التي تكرر عزفها إلى ما لا نهاية، فأنا لست الأول ولن أكون الأخير الذي يسطر مثل هذه الديباجيات التي تعنى بإهمال العرب لعنصر القراءة والتحليل، فقد سبقني كثيرون وقبل كل هؤلاء الجمع سبقنا الباري عز وجل حين بدأ مع رسوله العربي العظيم محمد (ص) قائلاً : «اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ» (العلق: 3).
إن الله لم يقل للرسول حارب ولا اقتل أو اهدم بيوت الناس ولا شرّد الأطفال وأقتلهم أو يتّمهم، ولا أهّن الناس أو عذّب النساء، ولا احرق الزرع والضرع أو اشتم الأمهات... بل قال عز من قائل: «ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ» (النحل: 125). ما يجعلنا نسطر مثل هذه الديباجة هو وضعنا المتردي الذي لا تحسدنا عليه أمة من الأمم، فأيادي كثيرة تمسك بأسلحة خطيرة وخطيرة جداً فوق ما يتصوره عاقل، وأصحاب هذه الأيادي ذوو عقول صغيرة جداً، ليس في المساحة التي يستوطنها المخ فقط بل في درجة التفكير والاستيعاب؛ فكثير من هذه العقول والأيدي تعشش وتسكن في أرض هي من أهم الأراضي العربية من الناحية التاريخية والنضالية، وهي ملاصقةٌ لنا نحن قاطني هذه المنطقة العربية المسمّاة بدول الخليج العربية ملاصقة الأنف للوجه وقد قالوا : «أنفك لو أعوج». أي أنه علينا بقبول العراق كما هو. ولكن من حقنا أيضاً أن نعالج هذا الأنف حين يصاب بمكروه، فهو المعبر الأساسي لحياتنا، أي أنه مدخل الهواء النقي الذي يغذي رئتينا بالأوكسجين، إذا منه شيء صالح للاستعمال في هذا الجو الملوث حتى النخاع.
يتطرّق كثيرٌ من الكتّاب الكبار ذوي الشأن في المجال السياسي لحال العراق الحالي، فجميعهم من دون استثناء يرون المشهد المرعب نفسه؛ الكاتب الأكثر شهرة في محيط العرب والعجم محمد حسين هيكل، دق ناقوس الخطر مراراً وتكراراً في الحلقات التي بثتها «الجزيرة»، وصرخ مراراً بأعلى صوته مستعيناً بالقلم الذي بين أنامله ليدق به سطح المكتب العاجي الذي تستند ذراعاه إليه: «العراق في خطر»، وزاد «المنطقة على ظهر عفريت». والكاتب البريطاني المتخصص في شئون الشرق الأوسط باتريك سيل في صحيفة «الحياة» يقول: «اجتياح العراق واحتلاله تحوّل إلى جريمة ذات مضاعفات وأبعاد لا حدود لها». ويضيف «المعارك الضارية التي شهدتها بغداد هذا الأسبوع تشير إلى تدهور الوضع إلى حد انتقال المبادرة إلى أيدي المقاومة. والقوات الأميركية، تساعدها قوات الشرطة المسحوقة القليلة التدريب، التابعة لرئيس الحكومة إياد علاوي، لا تكاد تسيطر على شيء»، و«احتمال تشكيل حكومة عراقية مستقرة وشرعية تفرض سلطتها على البلاد كلها يبدو بعيداً جداً»، و«تشير التقديرات المعتدلة إلى أن عدد الضحايا المدنيين في العراق يراوح بين 30 و40 ألف شخص، ولكن القتلى والجرحى يتراكمون بسرعة تجعل التعداد الدقيق أمراً بالغ الصعوبة». وأن المصلحة الرئيسية في هذه الحرب التدميرية هي لـ «إسرائيل»، و«هدفها الاستراتيجي تدمير العراق وإضعافه أبداً كي يزول خطر محتمل من الشرق». وقد تحقق هذا الهدف «إذ لم يعد هناك عراق عربي موحد وقوي. وتمت تجزئته فعلياً، وأقصى ما يمكن أن يتوقع هو أن يعود في صورة فيدرالية مائعة. وما أبعد ذلك عن آمال أولئك الذين يتصورون أن يتمكن العالم العربي ذات يوم من أن يثبت وجوده وقوته واستقلاله». وينتهي إلى القول: «وفي هذه الأثناء مأزق أميركا أشد ما يكون خطورة وحرجاً. فهي لا تستطيع البقاء بهدوء ولا تستطيع الانسحاب. ولايزال الفخ ينغلق على آمالها وعلى قواتها في العراق».
فؤاد الهاشم في عموده في صحيفة «الوطن» الكويتية يتوقع أن يدخل العراق في حرب مدنية تفوق في بشاعتها الحرب الأهلية اللبنانية ولمدة عشرين عاماً بالتمام والكمال من دون نقصان. وهو في عموده يختصر الكلام إلى «خير الكلام ما قل ودل» ليبرز الصورة القاتمة ليس للعراق فحسب ولكن لكل دول الجوار بما فيها إيران وباكستان وربما الهند. ولا نريد أن نزيد غير أننا مرغمون أن نسجل هنا ما قاله الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان إن «إراقة الدماء في العراق لا يرى أحد أنها ستتوقف».
غير أن هؤلاء الذين يدقون نواقيس الخطر في وقت لا يسمع فيه سوى صوت المدافع ودوي القنابل الذي يطغى على صراخ الأطفال الملطخين بالدماء والنساء المشردات طائرات الشعور والشعر، لا يملكون سوى الكلمة التي يحذّرون من خلالها حكومات لم تتعلم من دروس التاريخ درساً واحداً البتة. فجميع الدروس بالنسبة إليها دروس أعطيت فيما مضى من الزمان لأناس ليسوا جديرين بمثل هذه الدروس، لذلك فهم وقعوا في الفخ ولم يستطيعوا الخروج منه، فهم يعتقدون بأنهم «جيل اليوم»، وهم أشد وعياً بما يحدث في منطقتهم وأكثر اتصالاً لحظة بلحظة مع حلفائهم عبر وسائل اتصال لا تضع اعتباراً للزمن، يتعرفون من خلالهم على كل شاردة وواردة. بل إضافة إلى كل ذلك فهم أيضاً يوفرون لحلفائهم كل ما يمكن توفيره من أجل أن يستتب الأمن والأمان. بيد أن التاريخ لم ينقذ لندن من همجية الهجوم وإحراقها، ولم ينقذ باريس من المباغتة والاحتلال، ولم ينقذ أميركا من الحادي عشر من سبتمبر. وهم على ما هم عليه من تقدم في شتى المجالات وعلى رأسها مجال الاستخبارات الذي لا تعرف منه حكوماتنا سوى التصنت على امرأة عجوز صنعت لابنها «حليباً بالزنجبيل»، وعليكم أن تتخيلوا ما الذي تستطيع حكومة وحلفاؤها فعله بمثل هكذا معلومة.
ما علينا في آخر هذه العجالة إلا أن نقول للمعتقل السياسي «أسير الحرب» صدام حسين، وقبل محاكمته علّه يتعلم أو يتألم ما رددته حنجرة عندليب العراق والعرب ناظم الغزالي: «صرح إل بنيته رمل».
كاتب بحريني
العدد 748 - الأربعاء 22 سبتمبر 2004م الموافق 07 شعبان 1425هـ