مما يُروى عن الرئيس الصومالي السابق مولانا محمد سياد بري، أنه أجرى انتخابات حرة ونزيهة في «ضيعته» المحترمة «صوماليا»، ففاز بأصوات ستة ملايين و200 ألف، وبقي من مجموع الشعب الصومالي 2100 «مجنون» لم يصوّتوا لفخامته! فزعل الرئيس كثيراً، واستدعى رئيس المخابرات ليحضر له أسماء هؤلاء الحمقى الذين لم يحمدوا الله الذي أنعم عليهم برئيس مثله!
في مصر، أم الدنيا، كانت المهزلة تجري بإخراج آخر، فالرئيس السابق أيضاً السادات، صاحب نظرية «99 في المئة من أوراق الحل بيد أميركا»، كان يصرّ على أنه يحظى دائماً بتأييد 99 في المئة من المصريين، وأن معارضيه شرذمة من المشاغبين و«العيال الصُغَيَّرين». وحزبه كان يفوز دائماً بنسبة 99 في المئة من مقاعد البرلمان، وحكومته تضم 99 في المئة من أفضل الكفاءات «المخلصة» في مصر! وعندما أراد أن يثبت للناس حكمته العالية، استحضر العالم المصري الشهير فاروق الباز من مقر عمله في وكالة «ناسا»، الذي حدّد مواقع نزول العربة الفضائية الأميركية على سطح القمر، ليقول: هكذا اكتملت «دولة العلم والإيمان»!
سياساته الداخلية والخارجية، التي أدت إلى تدهور مصر وعزلتها وزيادة ديونها، أجمعت التيارات السياسية الكبرى (إخوان، قوميون، يسار، ناصريون) على إدانتها، ولكنه ظل يصرّ على أن 99 في المئة من المصريين يؤيدونه! وعندما زادت عزلته وتفاقم غضبه على معارضيه أمر باعتقال عشرة آلاف شخص في ليلة واحدة. وبعد شهرٍ واحدٍ اختفى هو ورقمه المفضل (99)! ويقال إن آخر كلمة نطق بها: «مش معقول... 99 في المئة...» ولم يكمل كلمته!
أما في تجربة صدام حسين، الذي ادعى مرة واحدة في إحدى شطحاته الروحية أنه من نسل الرسول (ص)، فإنه كان يصرّ طوال عقدين من حكمه الغليظ، على أنه يحظى بتأييد 100 في المئة! ولكن عندما زادت عزلته محلياً ودولياً، «رتّب» إجراء استفتاء «شعبي»، ليثبت للعالم أنه يحظى بتأييد 100 في المئة من العراقيين! وكتب حينها روبرت فيسك في «الاندبندنت» البريطانية مستخفّاً بطريقة الاستفتاءات العربية: «يبدو أنه حتى السجناء السياسيين في المعتقلات العراقية الكثيرة وهم بالآلاف صوّتوا لصالحه»!
مهازل عربية من الطراز الأول، لن تجد لها مثيلاً في الدول المتحضرة التي تحترم شعوبها، لكن أبطال هذه الحكايات كلهم اختفوا من المسرح، ولن يبقى منهم غير ذكرى استخفافهم بالشعوب، بما يمثلونه من استهتار كبير بعقول الناس. وإذا كان القارئ مثقّفاً ومتابعاً للشأن العام فإنه يلتقط الخيط بسهولة، وخصوصاً أن خيط الكذب قصير، وقصير جداً في حال الشعوب الواعية التي تدرك من يخدمها ومن ينافق لكي لا يسدّد فواتير الكهرباء ولا يدفع إيجار الأرض لعشر أو عشرين سنة!
لا أدري هل كان السادات يصدّق نفسه عندما أطلق «نكتة» الـ 99 في المئة، أم كان يراهن على أن الشعب المصري لا يقرأ ولا يفهم ولا يكشف الأكاذيب؟! فالسادات وعد المصريين بأن يكون العام 1980 عام الرخاء، وجاء العام 1980 وانقضى، وجاء العام 1981، وقبل أن ينتهي غاب السادات عن المسرح بتلك الطريقة الدراماتيكية الفظيعة. ولم يبق منه غير تلك العبارة المبتورة... «مش معقول... 99 في المئة». ولم ندرِ ما كان يفكر فيه الرئيس، ولكن زوجته جيهان ألقت الضوء على ما كان يفكر فيه بقولها إنه لم يأخذ بنصيحتها بلبس السترة الواقية من الرصاص. فهو لم يكن يصدّق أن أحداً يمكن أن يفكر في «معاقبته» مادام 99 في المئة يؤيدونه! فهل ذهب السادات ضحية تصديقه لكذبته؟
في العالم الذي يحترم نفسه، للانتخابات والاستطلاعات معايير ومقاييس، فأنت تعرف أين أجري؟ ومتى؟ ومن أجراه؟... إلخ، لكن مادمنا في عالمٍ عربي يعاملونه كالحيوانات، ويستخفّون بعقله، ويمارسون عليه فنون الكذب الممنهج، فلماذا يحترمونه؟ السادات في «دولة العلم والإيمان»، عندما كانوا يكشفون أكاذيبه وينتقدون سياساته التي أضاعت مصر، كان يَصِفُ منتقديه بالعيال ويتّهمهم بالغيرة، ويقول: «طَبْ ليه انتو زعلانين»! كأنهم يلعبون معه ولا يناقشونه في مستقبل بلد يسلك طريق الضياع! صدام فعلها أيضاً، حتى صوّت له السجناء في الأقبية تحت الأرض! أما مولانا سياد بري، فقد زعل جداً لأن 2100 من شعبه لم يصوّتوا له، فاستدعى مدير مخابراته ليأتيه بأسمائهم، لكن الرواية التي بين أيدينا لم تذكر ماذا فعل بهم. خيطٌ واحدٌ يجمع كل هؤلاء: عاشوا على نجاح كاذب، وأبهة مزعومة، وأطلقوا كذبتهم بالسوق، وعلى الناس أن يصدّقوها، وإلاّ فانهم «غيرانين»
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 747 - الثلثاء 21 سبتمبر 2004م الموافق 06 شعبان 1425هـ