بين دوحة الحص ووسط بيروت نفقان يمران بمحاذاة مطار بيروت الدولي، وعلى رغم أن المطار هو حديث بالمعنى العام للكلمة، وكذلك الطرق المحيطة به، فإن الأنفاق في بعض الأوقات تظل مظلمة حتى في عز الظهيرة، ما يربك السيارات العابرة ويعرض ركابها للخطر. هل هناك علاقة بين ما يمر به لبنان اليوم، وبين النفق المظلم ذاك؟
لم أكن استطيع الفكاك من فكرة أن ثمة علاقة ما بين الاثنين، فلبنان الذي تعافى كثيراً من حرب أهلية طاحنة، لا يريد أحد أن يتذكرها، وأصبح في بعض جوانبه الاقتصادية مزدهراً أو يبشّر بذلك، وينتشل نفسه بصعوبة من الآثار السياسية لتلك الحرب، وهي آثار تختفي ندوبها لتظهر من جديد.
وليس كمثل شعب لبنان، شعب يتمتع بالحيوية، لو ترك لحاله يتدبر أموره الحياتية والسياسية، إلاّ أن التدخلات التي وصفها أحد الساسة اللبنانيين بأنها «أرهقت لبنان» تذكر بذاك النفق المظلم في عز الظهيرة، تدخله متفائلاً فيختفي النور، وتتمنى أن تخرج منه بسرعة سالماً.
أحد أكبر الموسوعات في مكتبتي موسوعة للوزير اللبناني السابق أدمون رزق، وهي إحدى المطبوعات الكثيرة التي كتبها اللبنانيون عن لبنان الصغير في حجمه، ولكنه بالنسبة إليهم كل العالم. عنون أدمون موسوعته «في سبيل لبنان»! دليلاً على ما يحمله اللبنانيون من أمل كبير أن تتعافى بلادهم، إلا أن السؤال لايزال مطروحاً، لما يحتاجه لبنان من تضحيات في سبيله.
ليس المهم هنا أن نتذكر كيف جرى التجديد لرئيس الجمهورية، فقد أصبح ذلك من ضمن التاريخ القريب، المهم أن ننظر إلى التداعيات السياسية لذاك التجديد على الصعيد المحلي والعالمي، وهو ما يجب أن يفكر فيه اللبنانيون بجدية من أجل تعظيم الإيجابيات، إن وجدت، وتقليل الخسائر الشاخصة.
على الصعيد المحلي يبرز سؤال، وهو هل يعود الرئيس الحريري إلى سدة الرئاسة اللبنانية الثانية، بعد أن تقدّم الوزارة الحالية استقالتها؟
الإجابة عن السؤال تحتاج إلى تحديد موقف، فكثيرون في الموازنة بين سليم الحص، أول رئيس وزراء في عهد العماد، وبين رفيق الحريري الثاني والأخير، يضعون بعض قلبهم مع الحص، ولكنهم يؤمنون بمعجزة الحريري التنموية فيضعون كل عقلهم، وهي مفارقة تعيدنا إلى الوصل بين دوحة الحص، ووسط بيروت، والنفق المظلم فيما بينهما.
قدّم الحريري للبنان الكثير، وكانت أيضاً مفارقة لبنانية أخرى أن تمنحه الأمم المتحدة وسام الإنجاز التنموي، وهو ربما مقبل على ترك ورشة التنمية الصعبة.
رفيق الحريري كان بوضوح ضد التمديد أو التجديد، ليس لأن له موقفاً ضد أشخاص، ولكنه موقف ضد سياسات داخلية لبنانية، لها علاقة بالتنمية على وجه الخصوص. وقد اتخذ الحريري موقفه ذاك بعد، أو حتى بالتزامن مع ما أعلنته دمشق بأن انتخاب رئيس الجمهورية اللبنانية، هو شأن لبناني، أو ما عرف في الصحافة اللبناني بلبننة القرار!
وتبع الحريري عدداً من قادة العمل السياسي في لبنان، إلى درجة أن بعضهم تحدث عن ترشيح نفسه، وطرح برامجه، والدعوة لانتخابه، وحمت ساحة الإعلام اللبناني معظمها مع اللبننة، على أساس أن وعد دمشق بلبننة القرار هو وعد حقيقي وقطعي لا تراجع عنه. ولكن الأمور سارت بإخراج مختلف، فقد قررت دمشق أن فهم اللبننة فسر على عكس ما أرادت، فاللبننة هي اتباع ما تقرّره دمشق، لا ما يرسم في بيروت، وهكذا كان!
لسنا هنا بصدد الحديث عن الحكمة أو قلتها في ذاك القرار، ولا عن توقيته أو أسبابه المعلنة أو غير المعلنة، ولكننا أمام خيار رفيق الحريري، هل يعود إلى الرئاسة الثانية بعد تجربة طويلة نسبياً اتسمت بالشكوى من العرقلة التنموية، أم يفضل أن يبتعد في الثلاث سنوات الحرجة، التي ستتخللها انتخابات برلمانية حاسمة، قد تقرر هي لا غيرها، أن يبقى النفق مظلماً أم يتحول إلى منير؟!
الحريري في المعارضة كسياسي يكسب أكثر منه في السلطة، فنصف الناس من حيث المبدأ ضد من هم في السلطة، هذا إذا عدلوا كما يقال في التراث! وتجربة الحريري السابقة واللاحقة تؤيد ذلك، فقد كسب وهو خارج السلطة، وخسر وهو على رأسها. هذا إذا نظر إلى شخصه ومصالحه السياسية، أما الحريري خارج السلطة فهو خسارة للبنان على الصعيد العربي والدولي، وخصوصاً التنموي.
فالعرب القادرون على التعاون والدعم ينظرون إلى الحريري كصمام أمان، لا استخفافاً بالآخرين، ولكنه الاقتصاد الذي يفرق بين من له أسنان، ومن ليس له أسنان، حتى مع وجود اللسان.
الموضوع اللبناني على الصعيد الدولي هو الأكثر إحراجاً، فسيصبح لبنان بعد قراري مجلس الأمن الأخير، والتقرير المتوقع من أمين عام منظمة الأمم المتحدة كوفي عنان، والمكلف من المؤسسة الدولية بمتابعة الموضوع، مسرحاً للأخذ والرد الدولي، وتصرف طاقات لبنانية وأيضاً سورية نادرة باتجاه ملاقاة وصدّ ومقارعة النقد والتعليق والضغوط القادمة من الدول الكبرى والمؤسسات الدولية. كان يمكن أن توفر هذه الطاقات لصرفها تجاه أعمال تنموية أو سياسية أخرى أكثر فائدة.
عودة الحريري إلى الرئاسة الثانية مشكلة، هذا إذا عضّ الحريري على جروحه النازفة وضحى بأكثر مما هو قادر عليه، لأنه سيكون لزاماً عليه وقتها صرف طاقة في سبيل ترميم ما أحدثه القرار على الصعيد الدولي، ومواجهة من جديد لكل ما اشتكى منه محلياً بمرارة، تلك المرارة التي أوصلته إلى إعلان تذمره في الأشهر القليلة الماضية. واعتزاله في هذه الفترة يعد مشكلة أكبر، إذ سيكون في المعارضة معارضاً للكثير من السياسات بما فيها فكرة التمديد من أساسها، التي وافق عليها لأسباب وطنية، منها عدم العودة إلى أجواء صراع عبثي يفقد لبنان ما حصل عليه حتى الآن.
قطاعات من المجتمع اللبناني متخوفة من التصعيد الدولي، وتعتقد أن الضحية الأولى ستكون لبنان، وفي ترك الحريري للرئاسة الثانية سيزداد التخوف ليتحول إلى ضغط على الاقتصاد اللبناني، والذي هو في صحة عليلة في الأساس، ما ينتهي معه المواطن بتذمر أكبر وأكثر، فتشهد الساحة اللبنانية ضغوطاً داخلية تضاف إلى الضغوط الخارجية المتصاعدة.
الخط الذي اتخذه بعض المدافعين عن التمديد هو قريبٌ إلى الهزل منه الى الجدية، فهو يقول إن «المؤسسات السياسية المستقلة في لبنان اتخذت قراراها الحر، أليس ذاك ما يطالب به العالم الديمقراطي؟»، هذا الخط يضيف إهانات لجروح قد تم توقيعها، فهو خطاب يستهين بالعقل اللبناني المستنير، والعقل العالمي المطلع على الدقائق والتفاصيل، ومن يقول به لا يعرف كيف وإلى أية درجة تغيّر العالم وما ردة فعل المستنيرين.
من ضمن التناقضات التي تلفت النظر، أن ذلك كله تم بسبب «الحفاظ على الموقف الوطني تجاه القضية الكبرى وهي فلسطين»، وعلى الأرض اللبنانية مئات الآلاف من الفلسطينيين يعيشون في (جيتو) يكاد يبتعد عن الحد الأدنى للوضع الإنساني، وهو وضعٌ ليس خباء عن العيون، فهو قد أذيع على نطاق واسع بفضل الفضائيات الحديثة. أليس الأقرب إلى العقل أن يتحسن الوضع الإنساني والمعيشي لهؤلاء لإيصاله إلى الحد الأدنى من أجل استقبال الحديث عن القضية استقبالاً أفضل لدى السامع المحايد.
تلك قراءة في الوضع اللبناني الذي يعتقد البعض أنه مرشح للتفاقم في الأشهر القليلة والمقبلة، وحفظ الله لبنان وشعبه للخروج من النفق بأقل الخسائر
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 746 - الإثنين 20 سبتمبر 2004م الموافق 05 شعبان 1425هـ