العدد 746 - الإثنين 20 سبتمبر 2004م الموافق 05 شعبان 1425هـ

زيارة لمعهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية في فرانكفورت

سيكون لهذا المعهد دور بارز في المشاركة العربية في معرض فرانكفورت للكتاب في مطلع أكتوبر/تشرين الأول المقبل. فؤاد سزكين والعاملون معه في معهد تاريخ العلوم العربية الإسلامية أخذوا على عاتقهم مهمة تصحيح تاريخ العلم ذلك أن هذا المعهد ومقره مدينة فرانكفورت يصنع بمهارة نسخا عن الأجهزة التي اخترعها العلماء العرب تبرهن على مواهبهم الإبداعية وعلى إمكاناتهم العظيمة والتي لا يذكرها الإعلام الغربي نتيجة جهل أو سوء قصد.

(إنني أحتاج في الحقيقة إلى خمسين عاما أخرى كي أنجز كل ما ينبغي القيام به). من المؤكد ان هناك باحثين آخرين دؤوبين في العمل يفكرون بهذه الطريقة. لكن المستشرق والمختص بتاريخ العلوم فؤاد سزكين الذي يشارف على بلوغ سن الثمانين وصف حفل عيد ميلاده الأخير بأنه مضيعة للوقت. ويعلق هذا العالم على ذلك بابتسامة تعبر عن الرضا قائلا: إن الوقت بات يضيق شيئا فشيئا. فهو لا يفكر في التقاعد عن العمل ولا يعرف وقت الفراغ ولا العطلة بل يعمل أيام الأحد أيضا كي ينتهي من كتابة مجلداته العشرين التي يوثق فيها تاريخ المؤلفات العربية. زوجته الألمانية أورسولا وهي الأخرى مستشرقة متخصصة بالشئون العربية، لا تزعج زوجها وزميلها مدير(معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية) في جامعة غوته في فرانكفورت ولا تلهيه عن عمله إطلاقا. بل أن كل ما تفعله هو أن تنبهه بمنتهى الحذر إلى أنه ينبغي عليه أن يتناول بين وقت وآخر قليلا من الطعام كي يحافظ على قدرة العمل والإبداع.

يقع المعهد في فيلا جميلة رابضة في حي راق في الطرف الغربي من الحاضرة المالية فرانكفورت. وهو كمؤسسه فؤاد سزكين فريد من نوعه في دأبه في العمل. ففي جميع أنحاء العالم لا يوجد مؤسسة أبحاث مماثلة له تملك أيضا متحفا خاصا لايزال حتى الآن سريا. وكان هذا العالم التركي الأصل يهتم منذ وقت مبكر، منذ أن كان تلميذا للمستشرق الألماني المشهور هيلموت ريتر، بمسألة نشر التاريخ الحقيقي للعلوم العربية وتأثيرها على بلاد الغرب. وقبل 45 عاما كان عالمنا الشاب قد اختار ألمانيا الغربية موطنا جديدا له. وهنا بدأ بمنتهى الحزم والتصميم العمل على تحقيق حلمه، في بادئ الأمر كتب في جامعة فرانكفورت أطروحته للحصول على لقب بروفسور في فرع علمي نادر هو تاريخ العلوم الطبيعية. وسرعان ما أدرك هذا الرجل الذي يمتاز بواقعيته ومنهجيته أن جامعة فرانكفورت، وعلى رغم اهتمامها الكبير بعلم الاستشراق، لا يمكن أن تقدم الأموال اللازمة لتنفيذ خططه الطموحة ذات الكلف الباهظة. وهكذا قام فؤاد سزكين الذي كان قد أصبح في هذه الأثناء باحثا ذا مكانة مرموقة بالسعي إلى تطبيق فكرته الداعية إلى تأسيس معهد دولي متخصص بتاريخ العلوم العربية والإسلامية يكون بمثابة جمعية مستقلة وحيادية سياسيا.

وكان النجاح مفاجئا: أربعة عشر بلدا عربيا والكثير من المنظمات والأصدقاء والمشجعين من العالم الإسلامي تبرعوا على الفور بثلث الأموال المقترحة كرأس مال أولي للجمعية. وتبرعت دولة الكويت وحدها بمبلغ 5,6 ملايين مارك لشراء المبنى المناسب قرب الجامعة وتوسيعه وتجديده بالشكل الذي يلبي متطلبات المعهد. وفي حفل التأسيس العام 1982 أعرب سزكين، صاحب مبادرة تأسيس المعهد، عن غبطته وقال: قد يثير الاستغراب أحيانا عندما يقول المرء إن المسلمين قد بدأوا في التاريخ العالمي بنقل المعارف المتوافرة لدى أبناء الثقافات الأخرى التي كانت في هذه الأثناء قد خضعت لسيطرتهم.

وما لبثت أن تبعت الاتصالات الشخصية التي أجراها رجال العلم عملية واسعة النطاق لترجمة الكتب من اللغات اليونانية والفارسية والسنسكريتية إلى اللغة العربية. ومما يستحق الإعجاب في هذا الصدد أن تبني الأفكار والإنجازات الغربية قد تم من دون تحفظات دينية. وبعد مرحلة الجمع والاطلاع التي استغرقت نحو مئتي عام ونجاح العلماء العرب خلالها في دراسة المعارف العلمية التي كانت موجودة في العالم آنذاك، بدأت مرحلة الإبداع والتأليف في صفوف العلماء العرب. وفي هذه المرحلة وصلوا في كل حقل من حقول العلم إلى مستوى أعلى ودفعوا الفروع العلمية نحو مزيد من التخصص ووضعوا كثيرا من المصطلحات العلمية الجديدة. كما أنهم وضعوا حجر الأساس لفروع علمية جديدة تماما نذكر منها علم الاجتماع وفلسفة التاريخ وعلم النحو والصرف والبلاغة. وأخيرا فإن العالم مدين لأولئك الباحثين العرب القدامى باعتماد التجربة كوسيلة للبحث العلمي تطبق بصورة منهجية.

غير أن العلماء الأوروبيين أخذوا في مطلع العصور الحديثة هذه الإنجازات العظيمة التي حققتها الحضارة العربية والإسلامية ونسبوها غالبا إلى أنفسهم. ولذلك فإن دعوة غوته إلى إعادة كتابة تاريخ العالم بين الحين والآخر كان لها لدى فؤاد سزكين وقعا ذا أهمية خاصة. ولقد حقق خلال السنوات الـ 22 الماضية بالتعاون مع العاملين معه في معهد فرانكفورت، إنجازات مدهشة إذ تم جمع مؤلفات جميع المستشرقين الأوروبيين المهمين ونشر جزء منها من جديد. وهو يريد من إعادة نشر أكبر عدد ممكن من المراجع القيمة استكمال هذا الكنز العلمي الموجود في فرانكفورت ووضعه تحت تصرف الأجيال القادمة من العلماء والباحثين. ولقد تم حتى الآن في موضوع الجغرافيا وحده جمع أكثر من 300 مجلد.

ومن المنجزات الرائعة التي حققها المعهد هو المتحف المكتمل تقريبا الذي يشغل الطابقين السفليين من المبنى والذي مازال محجوبا عن أنظار الجمهور حتى الآن. ففي هذا المتحف تعرض خلف واجهات زجاجية وعلى منصات وفي صناديق العرض نسخ مماثلة تماما للأجهزة والأدوات العلمية التي كان العلماء والصناع العرب قد طوروها واستعملوها في الفترة بين القرنين التاسع والسادس عشر والتي فقدت نسخها الأصلية منذ زمن طويل أو لم يصلنا منها سوى بعض الأجزاء المتفرقة.

قام فؤاد سزكين خلال الأعوام الماضية بالإشراف على صنع نماذج لهذه الأجهزة مطابقة للأصل استنادا إلى مخططات ومراجع ضخمة موغلة في القدم. إذ كلف حرفيين مهرة بتصنيع هذه النماذج بالمقاييس الصحيحة في ورشات ألمانية ومصرية وتركية وسورية مستخدمين في ذلك المعادن الثمينة والخشب والزجاج. ويقول سزكين في هذا الصدد: ينبغي أولا العثور على العمال المهرة القادرين على صنع مثل هذه الأشياء. وأولئك الذين يفعلون ذلك يعملون ببطء شديد لكنهم يعملون فعلا بمنتهى الدقة والأمانة.

ففي عهد الخليفة المأمون في بداية القرن التاسع الميلادي، قام على سبيل المثال، نحو سبعين جغرافيا برحلة استغرقت عدة سنوات جالوا خلالها في السفن وعلى ظهور الخيول والجمال والفيلة في مختلف أرجاء إفريقيا وأوروبا وآسيا. وأسفرت هذه الرحلة العلمية عن وضع خريطة للعالم تعتبر بالنسبة إلى ذاك الزمان ذات دقة عالية تثير الدهشة يعرضها معرض فرانكفورت بعد أن حولها بطريقة فنية بارعة إلى مجسم على شكل كرة أرضية. وتحتوي هذه المجموعة الثمينة على كثير من الأشياء التي تبرهن على أن العلوم والتقنية العربية كانت قد بلغت أوجها في الوقت الذي كانت فيه أوروبا مازالت تغط في سبات عميق. وكل قاعة من قاعات المتحف تضم في جنباتها كثيرا من المفاجآت. فبعض الأجهزة البالغ عددها 500 جهاز، والتي كان قد اخترعها علماء الطبيعة أو الطب أو الفلك، تشبه حتى في أدق أجزائها النماذج التي صنعها الباحثون الأوروبيون في مطلع العصور الحديثة وإن كانت أقدم منها بكثير. وهكذا تم البرهان على أن العالم الفلكي الدانماركي الشهير تيخو براهة قد سرق الإنتاج الفكري لمن سبقه وأن كوبرنيكوس قد استخدم عملا سابقا قام به عالم فارسي في القرن الرابع عشر.

لا يرمي فؤاد سزكين من وراء ذلك التباهي بما توصل إليه من حقائق وإنما يريد بمنتهى الموضوعية إزالة الأحكام المسبقة والأخطاء التي لاتزال تقف حائلا دون إظهار الحقيقة عن إبداعات العلماء الشرقيين. غير أنه يقول (إن الوقت يمر بسرعة ولا يكفي لتنفيذ الخطط التي أصبو إليها) ثم ينتقل إلى عرض الدرة اليتيمة في مجموعته وهي ساعة مائية صنعها العاملون في المعهد خلال خمسة اشهر كنسخة مطابقة لساعة صنعت في القرن الرابع عشر. واعتمدوا في صنعها على بقايا موجودة في مدينة فاس المغربية. خزانة مزينة بزخارف فنية جميلة وفي داخلها ساعة تديرها قطرات من الماء تتساقط عليها بشكل متواصل. وهي تعمل بدقة أكثر من دقة الساعة الأصلية المصنوعة قبل ستة قرون. وكان الملك الراحل الحسن الثاني قد أرسل في الثمانينات خبيرا إلى فرانكفورت كي يطلب من سزكين تصنيع نسخة أخرى ولينقل إلى سزكين عبارات المديح والثناء. وكان سزكين أول شخص حصل على جائزة الملك فيصل التي تعتبر في بلاد الشرق بمثابة جائزة نوبل. كما أن سزكين حاصل على وسام الاستحقاق الألماني من الدرجة الأولى. من المقرر أن يفتح المعهد أبوابه خلال أيام معرض فرانكفورت للكتاب لاستقبال الضيوف والزوار الذين يريدون التعرف على المنجزات التي تمت في هذا المكان الذي يخلد تراثاً عربياً وإسلامياً بالغ الأهمية ما يتوجب إعادة كتابة التاريخ مرة جديدة





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً