أثناء احتفالات جمعية العمل الوطني الديمقراطي بمناسبة افتتاح المقر الجديد، بدءًا من ندوة المناضل والمفكر الفلسطيني عزمي بشارة، وانتهاءً بمراسم هذا العرس الكبير الذي تخللته خطابات وأناشيد وطنية وأفلام وثائقية عن عودة المناضلين من المنافي، ثم ورشة عمل عن «الإصلاحات في الخليج»، حضرها كوكبة من المناضلين والمثقفين والسياسيين التنويريين، لاحظت كغيري وجوهاً مألوفة ومعروفة في ساحات مذبح الوطن البحريني من أجل الديمقراطية الحقيقية والتقدم الاجتماعي، وكان جل الحاضرين الذين غصت بهم القاعة والخيمة الكبيرة المنصوبة لهذا الاحتفال، من فصيلين ديمقراطيين أساسيين؛ هما: «الجبهة الشعبية وجبهة التحرير» سابقاً و«العمل الديمقراطي والمنبر التقدمي» حالياً.
ولا يخفى على أحد أنهما من نبع واحد تقريباً، ولكنّهما افترقا من مصب لمصب آخر لأسباب قد تكون بتلك الحدة في الماضي ومع جمعهما الوعي الكامل لضرورات العمل التنسيقي اللذان لا يختلفان في المضامين العامة حوله، غير أنه الآن، من الخطأ الوطني الكبير للتيار الديمقراطي الممثل بهما أن يبقى الحال بأقل ما كان عليه من تنسيق في أيام المحن - الأيام الصعبة، أي في مرحلة الانفراج هذه.
قديماً قالوا: «البادي أظلم عند الخصومات؛ والبادي أفهم عند المصالحات»! وأثناء الخصومات يفتش العقلاء عن الطرف الثالث المستفيد من هذه الخصومة، وعن من يزرع الفتنة بين الطرفين المتخاصمين، وأعتذر مقدماً نيابة عن روح شهدائنا في الحركة الدستورية والتحررية والمطلبية، إذا كنت مبالغاً في قسوة الطرح، ولي في ذلك «حسنة الاجتهاد» إذا أخطأت، وظني أن الذي يجمع بين «العمل والمنبر» والمناضلين الحقيقيين من أجل ترسيخ وتصويب الممارسة الديمقراطية في هذه المرحلة ذات الملفات الثقيلة الموجعة، أكبر بكثير من سمة «التكسّب» بالرقص «بين هجاء اليوم والمديح غداً» التي لا يحبها الشاعر الفلسطيني الكبير سميح القاسم في شعر المتنبي، ولا نحبها نحن في «التكسّب السياسي على حساب مصالح الناس».
ما جرى في الماضي، ملكٌ للتاريخ والتراث النضالي وتضحياته، بسلبياته وإيجابياته، ولا ينبغي التطاول عليه أو الاختباء وراء ضعفه أو قوته، وخلق ذرائع وتبريرات لا مجال هنا لذكرها؛ فقيادتا «المنبر التقدمي والعمل الديمقراطي» الحاليتين مسئولتان عن ضعف التنسيق وتوحيد جهودهما، مع «الإقرار» بأنهما الأقرب لبعضهما، والأكثر وعياً وخبرةً وإلماماً بصوغ «التكتيكات الملموسة التي ينبغي أن تناسب الوضع الملموس»، وأنهما أدرى بعبارة لينين الشهيرة: «التحليل الملموس للوضع الملموس»، وهم يملكون القدرة على تحليل الأوضاع وصوغ الشعارات لكل مرحلة؛ لا أن يسمحوا للمتربصين الذين يخشون على مصالحهم الآنية، و«بمهاترات»، لا تغني ولا تشبع من جوع، «بتفتيت التفتيت» للتيار الوطني الديمقراطي وتغيّب دوره بقصد أو من دونه، في وقت نحن في أمسّ الحاجة إلى وقفة «فحولية» طويلة وصادقة لفرملة التراجعات عن المكتسبات الوطنية، وفرملة إصدار القوانين المقيدة للحريات، وفرملة التخريب البيئي المتعمد، إلى جانب ملفات كبيرة مثل الفساد المالي والإداري ومحاربة المفسدين، وملف التجنيس السياسي، والبطالة والتمييز السياسي والطائفي، والملف الدستوري إلى آخره من أشكال العمل الوطني المشترك والدفاع عن مصالح الناس.
أمام التيار الديمقراطي والقوى الفاعلة في المجتمع قضايا وطنية كثيرة تجمعها، وما يفرقها إلا النذر القليل من «الغشاوة الأيديولوجية» التي ما عادت بحكم المنطق مؤثرة إلى يومنا هذا، فليس من العدل والحكمة والمنطق العصري أن يختلف التيار الديمقراطي الآن على نظام «بول بوت» إن كان دموياً أو «ثورياً تحررياً لكمبوديا»، أو أن تطرح في البيانات «كليشية يسارية» تتردد في كل شاردة وواردة آنذاك مثل: «المنظومة الاشتراكية وفي طليعتها الاتحاد السوفياتي العظيم»، في حين إن هذه المنظومة انتقلت وطليعتها إلى رحمة الله، أو «الكفاح المسلح؛ الأسلوب الوحيد للتحرر...»، أو ما استجد من جديد القول: «بأن الإسلام هو الحل، وما يصطحبه من فكر تكفيري يلغي الآخر».
هذا زمن يتجسد النضال فيه في قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية ومأسسة المجتمع المدني، والدفاع عن قضايا الحريات العامة، والانتقال السلمي للسلطة، واحترام القوانين المشرعة من مجلس نيابي منتخب كامل الصلاحيات، وهذه القوانين التي ينبغي أن تنظم الحريات لا أن تقيدها، وتقنن القمع في المجتمع، بدل أن تحدّ منه، كما هو حاصل الآن في مقترح «قانون الجمعيات السياسة» الذي خرجت به علينا كتلة ما يسمى بالمستقلين، ولا نعرف من أية «داهية» جاء به، أو مرسوم بقانون المطبوعات والنشر السيئ جداً، والذي يذكرنا بحقبة قانون أمن الدولة وسوداويته.
ليس عيباً، أن تقوم جهةٌ بخطوة التقارب نحو الحد الأدنى من التوافق بتكثيف ثقافة «تعميم الحوار» في الشأن الوطني، فالعيب أن يعطى المجال «للحاقدين على الانفراج السياسي» لأن يستثمروا الخلافات، بين الحين والحين، لتمرير مشروعات مشبوهة تعيدنا إلى ما كنا عليه أيام قانون أمن الدولة، وتفتح الذرائع لدعاة الهيمنة والانفراد بالعمل السياسي لوضع العثرات والعراقيل أمام القوى التنويرية.
كاتب بحريني
العدد 745 - الأحد 19 سبتمبر 2004م الموافق 04 شعبان 1425هـ