التسخين الأميركي النوعي مع سورية والجارية فصوله منذ أيام، شغل الساحتين الدبلوماسية والإعلامية ولايزال؛ من الأمم المتحدة في نيويورك إلى عواصم المنطقة، مروراً بأوروبا والجامعة العربية. وإذ نال كل هذا الاهتمام والقدر من التحركات، فليس لأنه كان مفاجئاً، بل لأنه جاء بمثابة نقلة تصعيدية تختزن المزيد من الجولات المفتوحة على كل الاحتمالات ومنها قطع شعرة معاوية بين واشنطن ودمشق؛ مع كل ما يستتبع ذلك من ذيول ومضاعفات.
فالعلاقات بين واشنطن ودمشق دخلت دائرة الخطر - أو باتت مرشحة لدخولها - مع صدور القرار 1559 عن مجلس الأمن قبل أيام. أو بالأحرى مع استصدار واشنطن لهذا القرار من المجلس؛ الذي تحوّل، مع الأسف، إلى شبه أداة أميركية مسخّرة بصورة أو بأخرى، لخدمة المشيئة الإملائية لإدارة الرئيس بوش. فالقرار جاء ليشكل المدخل لتدويل علاقة، يُخشى أن تقوم واشنطن بوش بتحويله إلى مطيّة تستخدمها بصورة متعسّفة لافتعال مواجهة ما، آخر المطاف، مع سورية. أَلَم تسلك هذا السبيل لتسويق حربها على العراق، التي وصفها كوفي عنان أمس بأنها كانت حرباً «غير قانونية». أو إلى توظيف هذا التدويل لاحقاً كغطاء لعدوان إسرائيلي على دمشق، ولاسيما أن تلميحات من هذا القبيل صدرت عن مسئولين إسرائيليين بعد تمرير القرار 1559.
السؤال الآن، بعد خطوة القرار، هو: هل انكسر الرفّ واجتازت العلاقات السورية - الأميركية نقطة اللاعودة، أم أن باب التسويات مازال مفتوحاً ولو ليس على مصراعيه؟
العلاقات بين واشنطن ودمشق، خلال العقود الثلاثة الأخيرة، كانت باستمرار محكومة بالتوجس المتبادل وبقانون المدّ والجزر. لا كانت في مربع الاستقرار الثابت ولا في دائرة التوتر الدائم. كانت دوماً زئبقية. حيناً باردة وحيناً ساخنة. والسبب الأساسي أن هذه العلاقات كانت تقف على أرضية يحتدم تحتها صراع شديد بشأن الساحة السورية ودورها في المنطقة: دمشق أرادت بإصرار وعناد أن تكون واحداً من اللاعبين، في محيطها. واشنطن أرادت وبتحريض إسرائيلي، أن تكون سورية جزءاً من الملعب الأميركي - واستطراداً الإسرائيلي - في الشرق الأوسط. وبين لاعب وملعب بقيت العلاقة تتأرجح حول خيط رفيع. عندما كانت المصالح تتقاطع، كان الخيط ينتفخ ويتحول إلى حبل. وقد حصل ذلك في محطات مهمة: مع بداية الحرب الأهلية في لبنان؛ عند انتخاب أكثر من رئيس جمهورية لبناني؛ أثناء اتفاق أبريل/ نيسان 1986 بين لبنان و«إسرائيل»؛ أيضاً مع حرب تحرير الكويت؛ وأخيراً مع إسقاط طالبان والحرب على الإرهاب لناحية التعاون السوري بخصوصها. كان التقاطع يحصل وفق قاعدة المقايضة: «أخذ مقابل عطاء»، أو مقابل وعد بالأخذ، أو ربما توقّع الحصول على مقابل. وعندما كانت المصالح تتنافر وتتصادم، كان الخيط يضمر ويتحول إلى شعرة. وقد تكرر ذلك أكثر من مرة: أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان العام 1982 وما تلاه من تدخل أميركي مباشر؛ كذلك أثناء حرب الخليج الأولى واتفاق 17 مايو/ أيار، الذي كانت واشنطن عرابه، بين لبنان الواقع تحت الاحتلال و«إسرائيل»، والذي نجحت سورية في إسقاطه. وأخيراً اشتد التنافر بعد احتلال العراق.
لكن ولا مرّة انقطع هذا الخيط؛ على رغم عنف التأرجح وخضّاته. في الوقت ذاته، لم يتحول مرة إلى رابط متين يطمئن له الطرفان. الثابت الوحيد فيه أنه بقي مرهوناً بالظروف. وفي كل الأوان كانت واشنطن بحاجة إلى موافقة سورية - سعت إلى الحصول عليها بالترغيب والترهيب - على تسوية مع «إسرائيل» بشروط هذه الأخيرة. بالمقابل، سورية راهنت دوماً على أن صمودها سيحمل واشنطن على ممارسة الضغط الكافي لإجبار «إسرائيل» على القبول بتسوية على أساس 242 و338.
ضمن حدود هذه المعادلة تواصل الشد والجذب بين العاصمتين بانتظار أن تسنح الفرصة لأي منهما، كي يحسم اللعبة لصالحه. بعد 11/9، تغيّرت الظروف والمعطيات ومعها الأولويات والحسابات وأطاحت بقواعد اللعبة المألوفة. أدركت سورية ذلك تماماً، فأبدت تعاوناً ملموساً - باعتراف الأميركيين - في إطار الحرب على الإرهاب. وبذلك أحبطت أية محاولة، وخصوصاً إسرائيلية، لزجها كطرف مستهدف في هذه الحرب. ثم جاء احتلال العراق ليرفع سقف التحدي وليشكل مدخلاً جديداً لتصفية الحسابات مع دمشق ونزع أوراقها وبالتالي حسم اللعبة معها؛ وذلك من بوابة اتهامها، في البداية، بتوفير الملاذ لرجالات نظام صدام الفارين ولأموالهم المهربة إلى المصارف السورية. وعندما سقط هذا الزعم بدأ التحريض من زاوية اتهام سورية بتسهيل عبور المقاتلين العرب لحدودها، كي يقاتلوا الاحتلال في العراق. ثم تمادت الضغوط وكانت ذروتها في حوادث القامشلي؛ بغية حمل سورية على إبداء المرونة المطلوبة في احتضان الواقع الاحتلالي وتركيبته الحكومية في العراق. وبقيت الأمور في إطار هبّة باردة، هبّة ساخنة؛ إلى أن جاءت فرصة الاستحقاق الرئاسي اللبناني؛ فسارعت واشنطن - مع باريس هذه المرة - إلى التقاطها، لزيادة حشر سورية في الزاوية. وفي هذا الصدد يمكن الإشارة إلى أمرين مهمين:
1- إن القرار 1559 هو في حقيقته أبعد ما يكون عما يبيح به، لناحية الحرص المزعوم على لبنان وسيادته ودستوره. هذا الدستور تمّ تعديله مرتين العام 1995 والعام 1998 وللغرض الرئاسي نفسه، من دون أن يسمع أحد بأي اعتراض أميركي، ناهيك عن الفرنسي. ثم ما دخلهم أصلاً بهذا الشأن؟ هل المُراد تحويل لبنان مرة أخرى إلى ساحة تصفية حسابات وإلى رأس حربة أو تدفيعه ثمن وقوفه كمعترض إلى جانب سورية؟ إن ما يضمره القرار لا علاقة له بالدستور ولا بالسيادة في لبنان. إنه متاجرة بـ «حق أُريد به باطل». والأخطر أن بعض المعترضين في لبنان على التمديد والدور السوري فيه تلقفوا القرار 1559 على أنه خشبة الخلاص؛ فراحوا يكيلون له المديح ويعملون على تسويقه داخلياً من خلال تقديمه على أنه تعبير مهم عن وقوف المجتمع الدولي إلى جانب لبنان! بحيث بدا وكأن هناك مراهنة جديدة على الخارج والاستقواء به. وكأن مثل هذا الاستقواء لم يجربه فريق من اللبنانيين. أو كأنهم نسوا أن حصيلته كانت كوارث مازالت تداعياتها ماثلة حتى اللحظة.
2- إن واقع العلاقات اللبنانية - السورية المختلة بصورة فادحة بل فاضحة، باتت معطوبة إلى حدّ فسح المجال أمام الاصطياد الأميركي في المياه العكرة. فلولا الاختلال العميق والمزمن في هذه «الشراكة» - بالأحرى هذه «الرعاية» - وما أفرزه من رواسب وتراكمات سلبية، في الساحة اللبنانية؛ كما كان بمقدور واشنطن أن تتسلل بهذه السهولة إلى المعادلة اللبنانية وعلاقتها بـ «الراعي الإقليمي» عبر القرار 1559. وهي تراكمات أثارت اعتراضَ ليس فقط خصوم سورية في لبنان بل أيضاً بعض أهم حلفائها فيه.
إدارة الرئيس بوش - مع فرنسا - اتكأت على هذه الخلفية، كما على ملابسات التمديد للرئيس لحود؛ وتذرعت بكل ذلك لاستصدار القرار 1559؛ الذي يبدو أن له بعدين متوازيين: من جهة هو ينتمي إلى طراز القرارات التمهيدية التي تبطّن التصعيد التدريجي باتجاه الحسم؛ مثل القرار 1441 بشأن العراق والقرارات المرشح صدورها قريباً بخصوص دارفور والملف النووي الإيراني. من جهة ثانية بدا وكأنه وسيلة ضغط يهدف إلى حمل سورية على تحقيق رزمة من المطالب المحددة. وتجسّد هذا الجانب في محاكاة القرار لسورية من دون أن يسميها. بهذا البعد - الثاني - لم ينسف القرار الجسور أو ما تبقى منها، بين دمشق وواشنطن، فيما هو مرشح ببعده الأول لنسفها. والمشكلة بالنسبة إلى سورية في ضوء السوابق، أن المطلوب أميركياً لا سقف له، كما أنه هذه المرة يستهدف تجريدها من أوراقها الإقليمية. يعني إنهاء دورها كلاعب، سواء في لبنان أو فلسطين أو العراق؛ فضلاً عن فك علاقتها بإيران؛ مع كل ما وفّرته هذه الأوراق لها من سلاح استقوائي - دفاعي؛ مكّنها من اجتياز مطبات ومواجهة تحديات كثيرة وعاتية.
المشكلة الأخرى هي أن المنطقة مكشوفة تماماً وفاقدة المناعة إلى درجة تشجع واشنطن - وطبعاً «إسرائيل» - على مواصلة الاندفاع بسياسة الاستفراد والاستباحة؛ في طول ساحتها وعرضها؛ بل إلى الحدّ الذي يحرم دمشق من أي استقواء بالوضع العربي، على رغم كل ما يشكله القرار 1559 من تدخل سافر في الشأن اللبناني ومن استهداف مفضوح لسورية. واجتماع مجلس الجامعة العربية، على مستوى وزراء الخارجية، قبل أيام؛ شاهد حيّ على ذلك إذ لم يقوَ بيانه الختامي حتى على الإشارة إلى هذا القرار بالاسم؛ ناهيك عن المطالبات الصريحة التي شهدتها الاجتماعات - والتي لم تتجاوز الساعات القليلة على رغم كل الحرائق المشتعلة في المنطقة - بضرورة احترام 1559! وكأن واشنطن دأبت على احترام جميع القرارات التي صدرت لصالح العرب! الأمر الذي حدا بوزير الخارجية السوري إلى الانسحاب ومغادرة الاجتماع عند منتصف النهار.
في مواجهة هذا التحدي وفي ظل المعطيات الصعبة تبقى الأنظار موجهة إلى دمشق لمعرفة ما إذا كانت قادرة هذه المرة على إحباط محاولة تطويعها وما إذا كانت أولاً عازمة على تصحيح العلاقات مع الساحة اللبنانية التي يبقى الاستقواء بها هو خط الدفاع الأخير لصدّ الاستهداف وإحباطه
العدد 745 - الأحد 19 سبتمبر 2004م الموافق 04 شعبان 1425هـ