التصريح الذي أدلى به رئيس الحكومة البريطاني طوني بلير أمام رئيس الحكومة العراقي المعين إياد علاوي بشأن الحرب العدوانية على العراق يكشف عن استمرار تلك السياسة التي قادت المنطقة إلى حال من الزعزعة وعدم الاستقرار الأمني. بلير يطالب بوضع ملف الحرب خارج دائرة الاهتمام والتركيز على مكافحة الإرهاب. وبلير أكد أيضاً أن قواته لن تنسحب من العراق متذرعاً بالفوضى للبقاء هناك.
تصريح بلير يعتبر رداً غير مباشر على تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان بشأن لا شرعية الحرب ومخالفتها للقوانين الدولية، كذلك يؤكد استمرار حكومته في استكمال ودعم تلك العملية التقويضية التي قادتها الولايات المتحدة. فبلير يفسر ما عجز الرئيس الأميركي جورج بوش عن شرحه. فهو من جهة يفصل بين الحرب وتداعياتها وبين لا شرعية الاحتلال والنتائج التي أسفر عنها.
هذا التفسير البريطاني يوضح ما فات الرئيس الأميركي على قوله. فواشنطن أيضاً مستمرة كما يبدو على سياستها، فهي تعتبر الحرب على العراق شرعية ولم تخالف القرارات الدولية وكذلك تعتبر مقاومة الاحتلال مسألة غير شرعية وبناء عليه يجب أن تبقى في العراق إلى أن تقضي على ما تسميه الإرهاب.
الفصل بين الأسباب والنتائج والحروب وتداعياتها يبدو أنه النهج الذي يتحكم في عقلية الإدارة الأميركية التي تسيطر عليها حفنة من الأشرار الأصوليين (المحافظون الجدد). فهذه الحفنة ترى أنها مكلفة من «العناية الإلهية» بتغيير الأوضاع والمعادلات والخرائط السياسية عن طريق العنف واستخدام القوة والاستيلاء على ثروات الغير وإعادة توظيفها في أسواقهم لتشغيل مؤسسات التصنيع الحربي.
لذلك تبدو هذه الكتلة الشريرة غير مكترثة كثيراً بالقوانين الدولية وشرعية الأمم المتحدة وتوازن المصالح، وتعتبر أنها تستطيع أن تفعل ما تريده وتعيد إنتاج السياسة وصوغ القرارات في فترة لاحقة.
ومن هذا المنطلق اعتبر بوش أن حربه شرعية وكلام عنان غير شرعي. ومن المنطلق نفسه تهرب بلير من الإجابة عن السؤال مباشرة، وطالب بوضعه خارج دائرة الاهتمام والتركيز على معالجة الكوارث التي جلبتها الحرب.
هذا النوع من التفكير الخطير يعيد طرح أسئلة عن مدى تعلم الولايات المتحدة من سلبيات سياستها، وهل هي فعلاً في صدد مراجعة استراتيجيتها أو على الأقل إعادة قراءة ملفاتها بصيغة نقدية جديدة؟
حتى الآن تبدو واشنطن تتفاخر بإنجازات إدارتها وترى أن ما فعلته هو الصحيح، ولأنها فعلت الصحيح فلماذا لا تكرر الأمر في أكثر من مكان وعلى أصعدة مختلفة؟ فالبيت الأبيض حين يعتبر أن ما صدر عن مجلس الأمن من قرارات بشأن العراق كانت كافية له لإعلان الحرب من دون رخصة من الأمم المتحدة ومن دون غطاء شرعي ودولي، فمعنى ذلك أنه سيعتبر في المستقبل أن تلك القرارات الضعيفة التي صدرت بشأن سورية ولبنان والسودان وربما إيران هي أيضاً كافية له كصيغ عامة ومبهمة للتهديد بها أو استخدامها كوسيلة لتحريك الجبهات العسكرية. فمن يرى أنه ليس بحاجة إلى غطاء دولي - شرعي لتنفيذ حروبه الأولى ويصر على صحتها فلماذا يتردد لاحقاً في عدم استخدام ما صدر حتى الآن من قرارات أخرى لتمرير ما تبقى له من سياسات تقويضية في المنطقة؟
الآن تبدو الإدارة الأميركية في فترة إجازة (نقاهة) تنتظر بفارغ الصبر ما ستسفر عنه الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. وفي انتظار الحدث (المولود الجديد) يستغل البيت الأبيض الفرصة لتجميع أوراق دولية تتساقط أسبوعياً من هنا وهناك ليضعها كلها على الطاولة حين تأتي المناسبة.
الإدارة الأميركية تعيش فترة تجميع الأوراق (القرارات الدولية) فهي مثلاً نجحت في إصدار مشروع قرار جديد ضد السودان يهدد بفرض عقوبات على القطاع النفطي إذا لم يمتثل للقرار السابق 1556. وهي مثلاً نجحت في إصدار القرار 1559 الذي يطالب القوات الأجنبية بالانسحاب من لبنان وتقديم تقرير بهذا الشأن في 3 أكتوبر/ تشرين الأول المقبل. وهي مثلاً نجحت في دفع مجلس حكام الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى تبني قرار بشأن تخصيب إيران لليورانيوم، وأمهلت طهران فترة زمنية تنتهي في 25 نوفمبر قبل اتخاذ خطوات إضافية ونقل الملف إلى مجلس الأمن.
كل هذه الأوراق توضح برنامج بوش المقبل في حال جُددت له ولاية رئاسية ثانية. وهذه الأوراق إذا استكملت الإدارة تجميعها في الأسابيع المقبلة، فمعنى ذلك أن المنطقة مقبلة على سلسلة كوارث تجنب بلير الحديث عنها في تصريحه، مفضلاً وضع ملف الحرب على العراق خلف ظهر الأمم المتحدة والتركيز على ملاحقة الإرهاب
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 745 - الأحد 19 سبتمبر 2004م الموافق 04 شعبان 1425هـ