في تسعينات القرن الماضي أجرى رئيس إحدى الدول العربية في شمال إفريقيا استفتاء لاختبار مدى شعبيته. وحين صدرت النتائج المتفق عليها اعترض وزير الداخلية على الرقم الخيالي. ومن موقع الولاء للرئيس حاول الوزير توجيه نصيحة حتى تكون نسبة التزوير معقولة ومقبولة. كانت النتيجة المتفق على إعلانها تزيد على 96,8 في المئة. وحاول الوزير التقليل منها حتى تصدقها الجماهير. سأل الرئيس وزيره عن النسبة التي يقترحها فقال له لماذا لا تكون 69,8 في المئة من الأصوات. فهذه النسبة عالية وتشكل غالبية مطلقة. كذلك، وهذا هو الأهم، فإنها ستلاقي القبول من الناس وخصوصاً أن الشارع العربي بات يتخوف ويشكك بكل نتيجة تزيد على 70 في المئة. رفض الرئيس اقتراح الوزير. وحاول الأخير شرح وجهة نظره استناداً إلى خبرته ومعرفته التفصيلية بمشاعر الناس. كذلك حاول أن يعطيه أمثلة أوروبية على ما يذهب إليه. فهذه مارغريت ثاتشر حكمت بريطانيا على مدى ثلاث دورات متتالية بغالبية لم ترتفع مرة عن 42 في المئة من الأصوات مقابل 40 في المئة للعمال و18 في المئة لحزب الاحرار (الديمقراطي).

رفض الرئيس نصائح وزير الداخلية الذي رتب معه الاستفتاء، وطرده من الحكومة بتهمة محاولته تزوير إرادة الجماهير.

يبدو أن هذا المثال العربي بدأ يتحول إلى نموذج يحتذى في معظم المناطق الممتدة من المحيط إلى الخليج، وبات التزوير عند البعض مهنة أخذت تحترفها بعض المؤسسات والهيئات للتسويق لهذا المنتوج أو الترويج لتلك البضاعة مقابل حفنة من المال. فالرُّشى انتقلت عدواها وامتدت من المؤسسات الرسمية إلى المؤسسات الخاصة حتى تكتمل الكارثة على الإنسان العربي الذي بات في حيرة من أمره لا يعرف الحقيقة، ولا يدرك الصح من الخطأ حتى لو كان يملك المعلومات الدقيقة ويقدر التوازنات ويرجح عقلياً (منطقياً) ان تلك النسبة أقرب إلى الصحة وتلك مبالَغ فيها أكثر من اللزوم.

ولكن تبدو الوقاحة وقلة الحياء والتحايل على الوقائع هي السمة المسيطرة على السياسة العامة. فمثلاً صدام حسين أجرى استفتاء قبل شهور من سقوطه على مدى شعبيته فنال مئة في المئة من الأصوات. وحين أعلنت الولايات المتحدة حربها العدوانية على العراق لم يجد صدام أكثر من واحد في المئة يدافعون عنه وعن نظام أسرته. وعلى منوال «أبوالمعارك» يمكن قياس الكثير من الأمثلة والنماذج السياسية منها والاقتصادية أو الإعلامية.

الوقاحة تبدو سمة مشتركة وأخذت تتعولم مع نمو نزعة العولمة. فالرئيس العربي الذي طرد وزيره بذريعة محاولته تزوير إرادة الجماهير لايزال في الحكم حتى الآن. والرئيس الأميركي الحالي الذي فاز بالانتخابات الأخيرة في صفقة اثيرت بشأنها الكثير من علامات الاستفهام يحاول تجديد الصفقة بإغراء (رشوة) شركات الطاقة ومؤسسات التصنيع الحربي بالمزيد من الحروب وتوتير الأمن الدولي وجر المنطقة العربية إلى عدم استقرار أوضاعها الأمنية. فالرئيس الأميركي الذي يعرف كيف ولماذا ومَنْ أوصله إلى البيت الأبيض يدعي الآن أنه «الرجل المختار»، وان «العناية الإلهية» ارسلته لانقاذ البشرية من مصائبها. هذا الرئيس رد على الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان مؤكداً أن حربه على العراق شرعية ولم تخالف القوانين الدولية والمواثيق والمعاهدات. والرئيس نفسه يؤكد للناخب الأميركي يومياً أن الوضع في العراق تحسن كثيراً ويتحسن يومياً في وقت تتناقل وكالات الأنباء ومحطات التلفزة مصرع وجرح مئة جندي (أميركي ومن التحالف) شهرياً مقابل سقوط وجرح ألف عراقي شهرياً.

أكثر من ألف أميركي قتلوا وأكثر من 18 ألفاً من العراقيين سقطوا على يد الاحتلال والمجموعات المشبوهة منذ سقوط بغداد... وطاقم الإدارة يؤكد أن العراق بات في وضع أفضل، وان العالم استقر أمنياً بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001.

«الكذب ملح الرجال» كما يقول المثل العامي اللبناني، ويبدو أن كثرة الكذب الذي تدوّل وانتشر مع انتشار «العولمة» سيؤدي لاحقاً إلى انقراض مادة الملح وخصوصاً بعد أن دخلت مؤسسات الاستطلاع والأبحاث والاستفتاء إلى مائدة الطعام.

الرئيس صدام رفع نسبة التأييد له إلى مئة في المئة، وعلينا ألا نستغرب غداً إذا وجدنا أن النسبة وصلت عند البعض إلى 101 في المئة أو 102 في المئة أو 108 في المئة. فكل شيء متوقع في عصر «الأمركة» بما فيه الإسراع في القضاء على «الملح» لكثرة استخدامه