العدد 743 - الجمعة 17 سبتمبر 2004م الموافق 02 شعبان 1425هـ

الولد العاق و11 سبتمبر في بيسلان

حسن أحمد عبدالله comments [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

طيرت وكالة «د. ب. أ» للأنباء خبراً من سنغافورة قبل أيام عن لجوء بعض الآباء والأمهات إلى تقديم شكاوى ضد أطفالهم إلى الأجهزة المعنية لصعوبة سيطرتهم على هؤلاء الأطفال، وبحسب الخبر فإن عدد الشكاوى ارتفع إلى 22 هذا العام، وكان العام الماضي بلغ 12 شكوى.

هؤلاء الآباء والأمهات لم يستطيعوا احتمال أطفالهم فاشتكوهم، فكيف الحال إذاً مع الأطفال الذين احتجزهم إرهابيون في مدرسة بيسلان في اوسيتيا الشمالية، كيف استطاع هؤلاء تحمّل كل هذا العدد من الأطفال وبكائهم وضجيجهم ومطالبهم التي لا تنتهي؟ كم مرة رافق الإرهابيون الأطفال إلى دورات المياه؟ وكم مرة استجاب هؤلاء لطلب طفل يريد شرب الماء؟ إذا كان الواحد منا في منزله وطلب من طفله أن يذهب إلى النوم، فإن أول حجة يحتج بها الطفل - الذي لا يريد النوم - هي الذهاب إلى دورة المياه، ويتبعها بحجة شرب الماء، والأخيرة تتكرر اكثر من مرة في الليلة الواحدة أحيانا، لدرجة ان الأهل يستسلمون للأمر الواقع ويغضون الطرف عن طفلهم، الذي يبدأ في تلك اللحظة باستعراض قدراته من أجل لفت الأنظار اليه.

وفي حالات العقاب يبتكر الاطفال الكثير من الأساليب للاحتجاج تبدأ من العويل المصطنع وتصل إلى العويل الحقيقي مع اضافات لابد منها بين الحين والآخر، وتتراوح بين طلب الذهاب إلى دورة المياه والأكل والشرب وغيرها من الطلبات. وفي حال احتجاز الاطفال كرهائن اتخيل ان الإرهابيين أوقعوا انفسهم بشراك الاطفال ما دفعهم إلى حد اليأس من عمليتهم، او انهم مارسوا أقصى درجات ضبط النفس وتلبية مطالب الاطفال والمراهقين في المدرسة من أجل السيطرة عليهم، لكن الواضح تماماً أن الإرهابيين كانوا من الغباء إلى حدٍ لا يطاق، لأنه لا عاقل أبداً، ومهما كانت قضيته عادلة، واذا كان خيار احتجاز الاطفال كرهائن هو الوحيد أمامه، لا يقدم على فعل ذلك، لأن المحصلة ستكون - في كل الاحوال - حالاً من الجنون المطبق.

يقول المثل الشعبي «إن قاضي الأولاد شنق نفسه»، ومصدر المثل حكاية تروى عن خليفة عربي قديم، كان له العديد من الأولاد من زوجات عدة، وأراد معاقبة أحد القضاة فأوكل إليه مهمة حل المنازعات بين أطفاله، وقبل أن تغيب شمس ذاك النهار وجد الخليفة القاضي معلقاً إلى شجرة في حديقة القصر وإلى جانبها رسالة بخط يده يعلن فيها عجزه عن حل منازعات الأطفال، وذهبت مذاك هذه الحادثة مثلا تتناقله الألسن.

وفي الأمثال الشعبية الكثير من الامثلة التي تتحدث عن نزق الاطفال، فـ «الولد ولد ولو حكم بلد»، و«تضع الولد في حجرك يلعب بذقنك»، و«ولد ينزع الدبس عن الطحينة» و«شاق القاع وقايل باع»، وكلها تدل على مدى شقاوة الاطفال وعدم القدرة على احتمال تصرفاتهم حين ينوون الازعاج. والكلمة لا تسكت طفلاً أبداً لأن هؤلاء يعرفون أن سكوتهم في كثير من الاحيان يؤدي إلى عدم حصولهم على ما يريدون، والاطفال يعملون غريزيا بمبدأ المعارضة «خذ وطالب»، فكلما اعطيتهم طلبوا المزيد.

وبعيداً عمن يتحمل مسئولية المجزرة التي ارتكبت في مدرسة بيسلان، فإنها واحدة من أغبى العمليات الإرهابية والعسكرية على الاطلاق، أكان في اختيار الهدف أو التخطيط أو في الهجوم الذي شنته القوات الروسية لإنقاذ المحتجزين، وربما كان الافضل أن يترك الخاطفون والرهائن إلى أن يضجر الخاطفون من الأطفال فيضطرون إلى اطلاق سراح الجميع!

جاء في «جواهر الأدب» لأحمد الهاشمي انه «وقف اعرابي يسأل، فعبث به فتى، وقال: ممن انت؟ فقال الاعرابي: من بني عامر بن صعصعة، قال الفتى: من أيهم؟ فقال السائل: إن كنت أردت عاطفة القرابة فليكفك هذا المقدار في المعرفة، فليس مقامي بمقام مجادلة ولا مفاخرة، وأنا اقول: فإن لم اكن من هاماتهم (أي من رؤوسهم) فلست من اعجازهم، وأراد الفتى ان يسخر من السائل، فامتعض الرجل، فأخذ الفتى يعتذر، ويخلط الهزل والدعابة باعتذاره، وأطال الكلام، فقال له الاعرابي: يا هذا إنك منذ اليوم ادبتني بمزحك، وقطعتني عن مسألتي بكلامك واعتذارك، وانك لتكشف عن جهلك بكلامك ما كان السكوت يستره من أمرك، ويحك إن الجاهل إن مزح اسخط، وإن اعتذر افرط، وإن حدث اسقط، وإن قدر تسلط، وان عزم على أمر تورط، وان جلس مجلس الوقار تبسّط، اعوذ منك ومن حال اضطرتني إلى احتمال أمثالك».

ونحن في هذه المرحلة تنطبق علينا حال الاعرابي مع الفتى بعد أن اخرجنا أنفسنا من حركة العصر بأيدينا منذ قرون عدة، ودخلنا بكل طواعية خانة الرفض والادانة، ففي الوقت الذي كانت حركتنا العلمية تحتاج إلى التحديث والتطوير دخلنا بإرادتنا مرحلة الانغلاق، واستعضنا عن السعي إلى الحرية والتطور بالتبعية إلى الآخر، وبعد فترة بتنا الأداة التي تنفذ عبرها برامج الآخر الذي نتبعه، فذهب مسلمون من شتى بقاع العالم الإسلامي إلى «الجهاد» في أفغانستان من أجل دحر «الاحتلال السوفياتي»، وبمباركة من كل الذين يشكلون الآن معسكر مكافحة «الإرهاب».

وفي افغانستان التي تحولت «قبلة الجهاد الإسلامي»، لا توجد أية أمكنة مقدسة للمسلمين، علماً ان فورة «الجهاد» تزامنت مع اعلان «اسرائيل ضم مدينة القدس وجعلها عاصمة أبدية لها»، لكن القضية الفلسطينية تراجعت في مفكرة «الجهاد» إلى آخر سلم الأولويات، هذا اذا كانت أصلاً مدرجة على سلم الأولويات بالنسبة لـ «المجاهدين».

وبعد حين اصبح حال هؤلاء كحال الاطفال السنغافوريين مع آبائهم وأمهاتهم خارج سيطرة الذي استخدمهم، وها هو المستخدم الآن يشتكي أطفاله - أداته، ويعمل على انزال العقاب بهم ويتحالف مع عدو الامس من اجل معاقبتهم، وافغانستان أصبحت اليوم الشيشان، و«المجاهدون» ما زالوا هم ذاتهم والعدو أيضاً - مع بعض التغيير لأن السوفياتي اصبح اليوم روسيا فقط - والأداة وصلت إلى حدّ العبث في عملياتها ضد عدوّها فلم تفرق بين الطفل والراشد والبريء وغير البريء، والغباء جر الغباء، وانتهى بحماقة كبرى.

إن الذهنية التي نحتاج اليها كعرب ومسلمين في هذه المرحلة ليست مرحلة الارتعاش خوفاً من أية تهمة توجّه الينا، لأن ذلك لن يغيّر من واقع الحال شيئاً، فنحن متهمون شئنا أم أبينا، لكن ما نحتاجه هو ذهنية إعادة النظر في كل شيء، بدءا من مناهجنا الدراسية ووصولاً إلى انظمتنا الاقتصادية ومروراً بأساليب عمل انظمتنا السياسية، وكل ذلك لا يمكن أن يبدأ من خارج المنظومة الثقافية.

وأولى الركائز في هذا الشأن تكون في الاحتكام إلى منهجية معاصرة لفهمنا الذي يحكم سلوكنا، والتخلي عن التعاطي من الخارج مع النص، إذ علينا ان ندخل إلى جوهره ونقرأ بالشكل الصحيح، تماماً كما فعل الأولون حين قرأوا بلغة عصرهم فأبدعوا في الجبر والطب والعمارة والاختراعات وغيرها من العلوم، وابدعوا في اللغة ايضا إلى حد تعقيدها من كثرة الاجتهاد فيها، وان نخرج من ارث الخوف على السلطة من أي اجتهاد علمي جديد، فما حدث في اوسيتيا أخيراً، ولأن بعض العرب كانوا بين الإرهابيين سيزيد من الحملة الشعواء علينا، وفي المستقبل لن ينظر الذين يقفون ضدنا إلى التمايز في مواقفنا، بل هم يتعاطون معنا ككتلة واحدة، ولا يفرقون بين هذا وذاك، فحتى النخبة الأكاديمية العربية والمسلمة الموجودة في الغرب، وحتى المتحدّرين من أصول عربية واسلامية من الغربيين دخلوا جميعهم دائرة الاتهام والنبذ، وأصبحوا بمنزلة المتهمين المحتملين في كل جريمة مهما بعدت أو قربت من الإرهاب.

لهذا كله نحن بحاجة إلى ذهنية أكثر معاصرة وأكثر قدرة على اصلاح كل الخراب الذي تركه عبث الإرهاب، وليس الاستسلام وانتظار الجلاد. فقبل أيام قليلة مرت الذكرى الثالثة لحوادث الحادي عشر من سبتمبر، ومنذ صبيحة ذاك اليوم (بحسب توقيت نيويورك) ولغاية اللحظة هذه تسير عقارب الساعة ببطء شديد جدا، لان هذا اليوم اصبح أكثر الايام طولاً في التاريخ، والولد الذي ربته الولايات المتحدة الأميركية وترعرع في كنفها ولعب في أفغانستان اللعبة التي ارادتها هي، هذا الولد هو الذي خرج عن سيطرتها واعتدى عليها، وتحولت افغانستان من ساحة لـ «الجهاد» بدعم اميركي، إلى ساحة لتأديب الولد الذي فر إلى مجاهل الطبيعة خوفاً من عقاب «الوالد»، والآن تكتمل الدائرة ويلتقي أعداء الأمس مباشرة ومداورة على البحث عن الولد العاق من أجل تأديبه!

هذا يحدث في ظل غياب وجهة نظر عربية وإسلامية قادرة على القول بأعلى الصوت، ان الأولاد الذين خرجوا على طاعة الأب ليسوا صناعة عربية واسلامية إنما هم صناعة أميركية، ولذلك يجب أن يكون العقاب لهؤلاء فقط وليس لكل العرب والمسلمين.

رئيس القسم الثقافي والدراسات بصحيفة «الرأي العام» الكويتية

العدد 743 - الجمعة 17 سبتمبر 2004م الموافق 02 شعبان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً