يأمل الواحد منا أن يعمل على تحقيق حلمه... والأحلام كثيرة بعضها صعب المنال والبعض الآخر يمكن تحقيقه بشيء من صدق التوجه والمثابرة والإصرار وعدم الاستسلام لغول اليأس. وأحلام الشعراء لا زمن ولا مكان لها، وتظل تحلّق في أكثر من زمن وأكثر من مكان بأجنحة لا تقوى عليها طيور الأرض. ويظل الخيال هو الوقود الفاعل لتلك الأحلام، ووحدهم الذين بلا خيال لا يعرفون الى الأحلام سبيلا. وليس غريباً أن يكون جزء كبير مما تحقق من الإنجاز العلمي والتقني والوسائل والمعدات التي عمقته وأكدته، كل ذلك يعود الى رحلة طويلة من الخيال والأحلام جسدها عدد من الروائيين والكتاب قبيل أن تعرف البشرية كل هذه الطفرة العلمية التي تكاد تصل مرحلة الكمال.
ولنا أن نتخيل لو أننا وجدنا على ظهر هذه الأرض من دون خيال وبالتالي من دون أحلام... كيف سيكون وقع هذه الحياة علينا ونحن الكائنات الضعيفة على رغم الجبروت، والهشاشة على رغم الطغيان، والاستسلام لسطوة أصغر وأضعف الكائنات على سطح هذا الكوكب، وعلى رغم الشهية المفتوحة للحروب والقتل والتدمير.
يخرج الإنسان من حروب ليستعد لأخرى، يقيم معاهدات هنا ليفجر حروباً هناك، يلقي بالخبز والقنابل من الطائرات لأولئك الذين جنح خيالهم بعيداً حين ظنوا أن عناية بني جنسهم جاءت ليطالهم شيء من الرحمة بينما هي هنا لتحصد ما تبقى من عجزهم ووهنهم واستسلامهم وتمعن في المزيد من الجور والطغيان!
ومع تعمّق الخيال تتعمق الأحلام وتكبر وتتمدد، وهي بوجهين، وجه مضيء يحاول العمل على تضييق الهوّة بين الذين يملكون والذين لا يملكون، بين الذين يعانون من التخمة وأولئك الذين يعانون من مجاعات مرعبة وبين الذين يرطنون ويكتبون ويقرأون بلغات كثيرة وبين الذين لا يميزون بين القمر ليلة تمامه وبين رغيف الخبز، أما الجانب المكفهر والمعتم من تلك الأحلام، فهو الذهاب بكل حواس التخريب والدمار والهيمنة للإمعان في تعاسة الإنسان وما يحيط به من بيئة ومخلوقات، وتحويل جنته المؤقتة إلى جحيم دائم وأزلي.
وكثير من الشعراء يدركون أن الخيال يحتاج إلى لياقة وتنشيط كما تحتاج أية عضلة في جسم الانسان الى الحركة والنشاط كي لا تضمر وتفقد فاعليتها ودورها، كذلك الأمر بالنسبة الى الخيال فلن يقدّر له أن يبلغ أمكنة وصوراً ومشاهد وتأملاً وعمق صوغ ما لم يكن على التصاق مستمر في المعاينة والنظر والوقوف على تفاصيل ودقائق ما يدور في محيطه.
والشعراء الذين لا يدركون اللياقة والنشاط اللذين يحتاجهما الخيال ربما يعمّرون في الحياة ولكنهم يخرجون منها كمَّاً مهملاً، كأن لم يحضروا ولم ينتبهم فيها صوت أو صدى، يظلون يعيدون إنتاج الثرثرة ذاتها والألوان الباهتة في الصور ذاتها واللغة المصابة بأكثر من داء وعاهة ذاتها، ولن تجد من يشايعهم في كل ذلك ويصفّق لهم في الصالات الفارغة بهم سوى من أصيبوا بالداء ذاته والعاهة ذاتها!
ولأن الشعر محاولة للتحايل على الجانب المتجهم من الحياة، والقفز على موانعها، فلن يتأتى ذلك بنظر لا يتعدى خنصر القدم، ولن يتأتى بتعميم (تسمية الأشياء بأسمائها) حتى ليكاد يطال الكثير من «الشعر» الذي لا نكاد نقف على «العُشْر» من صفته! بتعبير آخر: الشعر ائتلاف في الاختلاف واختلاف في الائتلاف، قفز أمام واقع تشيع فيه الموانع والحواجز، وسباق مع الريح في أمكنة تعج بـ (الزحف على البطون) وتحليق في محيط جُبِلَ على الدبيب
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 743 - الجمعة 17 سبتمبر 2004م الموافق 02 شعبان 1425هـ