العدد 743 - الجمعة 17 سبتمبر 2004م الموافق 02 شعبان 1425هـ

استراتيجية علاوي: امتطاء الوحش لتحقيق البرنامج السياسي

اجندة بناء العراق بين براغماتية الحكومة وعنف المقاومة

عصام فاهم العامري comments [at] alwasatnews.com

.

الحكومة العراقية المؤقتة والمكلفة ببناء نظام سياسي جديد يعتمد مبادئ التوافق العام بين العناصر الأساسية للمجتمع العراقي، ترسبت لديها القناعة ان المضي في العملية السياسية من أجل بناء دولة وفق أسس جديدة لا يمكن ان يحقق أهدافه ومراميه من دون إحداث تبديل جوهري في خريطة العنف والمقاومة القائمة في البلد.

فالحكومة ومن خلفها القوى السياسية والدينية والاجتماعية المنخرطة او المؤيدة للعملية السياسية جميعها تجمع على رفض الواقع الذي خلفه الاحتلال، ولكنها في رفضها هذا تمثل عقلية براغماتية ونمطاً سياسياً ربما لا تعرفه المنطقة بأسرها على هذا النحو، اذ انها تريد ان تدير الازمة التي مثلها الاحتلال وفق منطق قائم على امتطاء الوحش وصولاً الى تحقيق اولويات برنامجها السياسي. وأوليات هذا البرنامج تنصب على اعادة بناء العراق، بل والاستفادة من وجود الاحتلال وتوظيفه في اطار تحقيق الهدف.

وليس بالضرورة ان تحقيق الهدف المنشود يستدعي الموافقة على استمرار واقع الاحتلال، ولكن انطلاقاً من مبدأ «الضرورات تبيح المحظورات»، ترجئ النظر في تحقيق بعض الأهداف التي يمكن تأجيلها إلى حين، مقابل تحقيق أمور وأهداف تبدو اكبر وأهم، ولكن من دون التنازل عن الأهداف المؤجلة، والتي يتصور انه يمكن تحقيقها في ظل ظروف مستقبلية تكون مؤاتية أكثر.

فحكومة علاوي، كما يبدو من أدائها، تعمل كمن يمتطي وحشاً متقلباً لا أمان له. فهي تدرك الخشية من قفزه، ولكنها تعرف أيضاً أن البقاء في هذا الوضع يتضمن الكثير من المخاطر.

وعليه فأولوية هذه الحكومة هو إعادة بناء العراق (دولة ومجتمع) وإقامة مؤسساته وتحقيق الاستقرار بأسرع وقت ممكن، ومن ثم المطالبة بخروج الاحتلال (وان اتخذ تسمية القوات المتعددة الجنسيات). ويبدو ان كبار رجال الدين في العراق ومثلهم علية القوم والذين يمثلون الطبقة العليا في الفعاليات يتفق غالبيتهم مع المنهاجية المعتمدة في ادارة الأزمة الناشئة عن الاحتلال. لذلك وجدناهم حتى الان يرفضون دعاوى المقاومة، بل ويمتنع رجال الدين من الافتاء بالمقاومة المسلحة والعنفية، وانما يسترشدون بضرورة ان تكون المقاومة سلمية لواقع الاحتلال.

التعاطي الموضوعي وليس مهادنة

ومن هنا رفضت المرجعيات الدينية والاجتماعية تأييد أعمال العنف، بل وأدانت الهجمات التي تستهدف تكوينات الدولة الجديدة من عناصر شرطة وجيش أو كبار الموظفين والمسئولين في الدولة، بل وذهبت معظم هذه المرجعيات الى الدعوة لضرورة توفير الأمن والاستقرار والعون للحكومة في خطواتها لتحقيق برنامجها السياسي، على فرض ان نجاح الحكومة في تحقيق برنامجها السياسي من شأنه ان يقلص الوعاء الزمني لبقاء الاحتلال.

هذا التفكير ليس مرده مهادنة الاحتلال، بقدر التعاطي موضوعياً مع الديناميات والمفردات القائمة بتجلياتها الحقيقية. واول هذه التجليات ان الاحتلال قائم ومرفوض، ومن الشرعي والواجب مقاومته. وهذا ربما ليس فيه اجتهاد او خلاف، ولكن الخلاف يبدأ عبر منطقين سائدين في الساحة العراقية: منطق المقاومة عبر الاسلوب السلمي والاخر عبر الاسلوب العنفي، أي الاتجاه الى المقاومة العسكرية في رفض الاحتلال بعنف ومواجهته مباشرة. وهذا الامر ليس مرفوضاً لأن يملك سنده الشرعي وانطلاقا من فقه الجهاد فهو واجب، ولكن ديناميات الواقع تشير الى ان طبيعة هذه المقاومة العسكرية شابها الكثير التشوش ان لم يكن التشوه، لاسيما وانها بدت بلا جذور وطنية، بمعنى وان كان الوطن العراقي ميدانها وادواتها وعنوانها فإن أهدافها متسعة في دوافعها، ما بين بعض دول الاقليم التي ترى ان هذه المقاومة ضرورة لتأجيل المشروع الاميركي الذي وضع مرساته في العراق فيما كانت اشرعته تستهدف تغيير المنطقة، وفيها من «الدول المارقة» العديد، وتمتاز فيها «صناعة الدكتاتوريات» بالازدهار. بل ان المقاومة العسكرية للاحتلال تأتي في اطار معولم بهدف محاربة «الاستكبار العالمي». الامر الذي جعل العراق ساحة مواجهة مثل ساحات اخرى، ولكن الفارق ان الساحة العراقية ونتيجة حماقات الاحتلال الكثيرة جعلت منه مغناطيساً لكل اصحاب الارادة والعزم لمقاتلة الاميركيين للانجذاب إليه.

ربما يجب التفريق هنا بين ما تقوم به فصائل المقاومة العراقية المتعددة المصادر والتوجهات لتحرير العراق من الاحتلال الأميركي وما تقوم به الفصائل الإرهابية التي تريد وتعمل لاستمرار العراق أرضاً مفتوحة للحرب ضد الأميركيين. ولكن هذا التفريق هو في واقع الحال نظري أكثر منه عملياً، ولاسيما وان المناطق التي تنشط فيها فصائل المقاومة مثلت البيئة الحاضنة للفصائل الارهابية، كما ان المؤشرات كثيرة على قيام تحالف لوجيستي بين نموذجي الفصائل. والخلط القائم بين المقاومة والإرهاب في العراق سواء سهلت قيامه اميركا او لم تفعل هو مطلوب أميركياً باعتباره الرافعة التي تضفي شرعية ولو متأخرة لحربها ضد العراق.

تناقض منطق المقاومة

ومما كرّس التشوش لدى الداعين إلى الكفاح المسلح في مقاومة الاحتلال وأبعدهم أكثر عن الاتساق بالحال الوطنية العراقية، الافتقار للبرنامج السياسي الذي اوقعهم في تناقض وثنائية أفقدتهم التعاطف الشعبي. هذا التناقض وهذه الثنائية الدعوة لخروج قوات الاحتلال وضرب قوى الشرطة واستهداف عناصر الجيش العراقي وعرقلة قيام اذرع الدولة العسكرية، الامر الذي يبدو ان اصحاب هذا التوجه وكأنهم راغبون في استعادة ديمومة مشهد السلب والنهب وانهيار الدولة الذي برز عيناً للعراقيين في الأشهر الاولى للاحتلال بأبشع صورة، وفي أحسن أحوال الظن ان الساعين لتقويض الدولة والمعرقلين لقيام مؤسساتها ربما يريدون عبر مجاميعهم المؤهلة بحكم تراكم الخبرة ملء الفراغ تمهيداً لإعادة المشروع السلطوي بتركيبته السابقة، ما يبرز فصائل المقاومة هذه وكأنها تنازعٌ من أجل السلطة وليس الوطن.

حكومة علاوي وكذلك القوى المؤيدة للعملية السياسية، أدركت مسبقاً انه كلما تأخر قيام الدولة العراقية كلما استمر الاحتلال، وان فرض الاستقرار عبر قيام مؤسسات الدولة سيقصر من امد وجود القوات الاجنبية. أكثر من ذلك ان حكومة علاوي لا تتغافل عن ان الشرعية الدولية بالمعنى القانوني قد حصلت عليها، ولكنها تدرك ان مثل هذه الشرعية غير كافية وبالتالي فهي تريد ان تسير قدماً في العملية السياسية من أجل الوصول الى الانتخابات العامة التي تفرز الدستور الدائم وتؤسس لحكومة منتخبة. والخطاب السياسي للحكومة ولرئيسها يدعو الجميع لتبديل الواقع الذي افرزه الاحتلال عبر انخراط كل العناصر المؤثرة فى الحياة العراقية بالعملية السياسية، وأن يكون انخراطهم سياسياً وليس عسكرياً، لأن مشاهد العنف بكل التجليات القائمة الان بغض النظر عن النوايا، تقدم المبررات لاستمرار مرحلة الاحتلال والوجود العسكري الاجنبي.

ولكي يتسق الخطاب مع اجندة البناء اتخذت الحكومة المؤقتة سلسة من الاليات العملية منها فتح الحوار مع الفعاليات المختلفة العسكرية والاجتماعية والسياسية، لاسيما في مناطق بؤر التوتر العسكري، واعلان العفو العام وتمديده، في الوقت الذي يجري الاستمرار في الضغط العسكري على القائمين بالاعمال العنفية والعمليات المسلحة. والعمل على إعادة النظر بكل الاجراءات التي اتخذتها سلطة التحالف من اجتثاث البعث الى حل الجيش والمؤسسات الامنية وبعض الهيئات والوزارات والعمل التدريجي على الغاء هذه الاجراءات بما في ذلك اعادة البعثيين الى وظائفهم واعادة منتسبي الجيش السابق للانضمام للجيش الجديد الذي من المؤمل ان يصل عدده الى 250 ألفاً، أي الى العدد الذي كان عليه الجيش في النظام السابق. وكذلك العمل على اعادة اكثر من نصف منتسبي الاجهزة الامنية السابقة مع توفير رواتب تقاعدية أو فرص عمل في دوائر مدنية لمنتسبي هذه الاجهزة ممن لا يتم استيعابهم في الاجهزة الجديدة.

كما تسعى الحكومة للانتهاء من الانفلات الأمني في البلد لأسباب تتعلق بالمتغيرات الخارجية الإقليمية والدولية، وذلك عبر توفير توافق دولي واقليمي لمعالجة هذا الانفلات. وهو ما تأمل حكومة علاوي الحصول عليه عبر عقد قمة دولية تشارك فيها كل الدول الصناعية التي تعرف بـ «G8» إضافة الى الصين، ليكتمل عدد الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، وماليزيا بصفتها الدولة التي ترأس منظمة المؤتمر الإسلامي، وتونس رئيسة مؤتمر القمة العربية، وهولندا رئيسة الاتحاد الأوروبي، والإمارات العربية المتحدة كونها ترأس الدورة الحالية لمجلس التعاون الخليجي، فضلاً عن جميع دول الجوار العراقي.

وتشمل هذه الأجندة تسريع الخطى من اجل اعادة الاعمار وتنشيط الاقتصاد وتعزيز القدرة الشرائية للمواطن العراقي ولاسيما من اصحاب الدخل المحدود، وقد اتخذت خطوات في هذا الاطار اذ بدأت الحكومة ببناء محطات كهربائية من العائدات النفطية، ومن دون انتظار برنامج المساعدات الدولية الذي لم يأت. وعلى رغم ان الوضع الأمني المضطرب لا يزال يحول دون استقرار الانتاج النفطي وبالتالي تغذية برامج الاعمار بالاموال، إلاّ أن الحكومة اتخذت خطوات منها تفعيل مهمات المجلس الأعلى للنفط، من خلال العمل على تشكيل شركتين عراقيتين جديدتين، للنفط وللغاز، ومحاولة سد النواقص في المنشآت النفطية الحالية من جانب آخر.

كما جرى العمل على دعم حركة بناء المساكن عبر تنشيط التسليف طويل الامد للمواطنين وبفوائد بسيطة، واتخذت قرارات موازية لتنشيط الاقتصاد، منها العمل على خصخصة بعض الشركات الحكومية مثل صناعة الاسمنت والانشاءات، فضلاً عن شركات النقل البري.

وتدارس اياد علاوي مع وزير الصحة سبل رفع كفاءة الخدمات الصحية، كما تدارس مع رؤساء الجامعات العراقية العمل على تحقيق مستوى افضل للدراسات الجامعية في العراق، ومنح الجامعات نوعاً من الاستقلالية المالية، على ان يحصل التوافق بين حاجات المجتمع الحقيقية وبين المقاعد الجامعية، من دون أي هدر في الدراسات التي لن تجد لها اية مواقع وظيفية ولن تكون اكثر من هدر أموال الدولة على طلبة لا يقدمون خدماتهم للمجتمع بعد تخرجهم. يضاف الى ذلك العمل على نشر مراكز الابحاث الجامعية التي تقدم الخبرة الاستشارية لمؤسسات الدولة بما يحقق عملية توافق بين اهتمامات الجامعة وبناء البلد في مرحلة إعادة إعماره

العدد 743 - الجمعة 17 سبتمبر 2004م الموافق 02 شعبان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً