الأسماء التي أعلن أنها ستكون محور الجمعية السياسية الشيعية الثالثة «العدالة والتنمية» التي ستخرج من عنق «الوفاق» الأم، تدلّ - ولو بنظرة أولية - على أن الشقيقة السياسية الجديدة مرشحة لأن تكون نادياً سياسياً للأغنياء (المعلمية والأفندية).
لا أحد ينكر أن من بين تلك الأسماء أكاديميين محترفين وشخصيات أخرى لها صيتها الاجتماعي لكنها في الوقت ذاته أسماء لكبار الأثرياء في قبال جمعية الوفاق التي ترسخت قواعدها على أعناق الفقراء والمسحوقين من الذين لا ناقة لهم في هذا المجتمع ولا جمل.
أوروبا القرن التاسع عشر شهدت أنماطاً كثيرة من الأحزاب والتكتلات السياسية القريبة منها أو المناوئة للنظم السياسية التي كانت تسيّر دفة الأمور قبل أن تشرق عليها شمس الحضارة الحديثة. من بين تلك المجاميع فرق سياسية للطبقة العليا أو أثرياء القوم الذين استغلوا مركزهم المالي في بسط نفوذهم على عامة الشعب.
حال الرمزية في الجمعية الجديدة لا تبدو أنها مختلفة كثيراً عن تجربة الوفاق؛ لأن الرمزية (دور الرموز) طغت على طبيعة العمل المؤسسي الوليد. قد يقول البعض إن الرمزية ضرورية لتثبيت أركان أي تكتل سياسي، وفي الرد على ذلك يمكن أن يقال إن غياب أو تغييب دور العمل المؤسساتي المنظّم هو الذريعة التي اتخذها قادة وأعضاء وفاقيون مقابل الانشقاق عن الجمعية الأم، على رغم ثمن هذه العملية وتداعياتها الباهظة في إحداث انقسام وشرخ في صفوف التيار في لحظة زمنية حرجة تمرّ بها المعارضة. وطالما كان ذلك هو الهدف المعلن على الأقل، فمن غير اللائق أو المقبول أن يعيد المنشقون فصول هذه القصة مرة أخرى والتي بسببها دفعت الوفاق ثمناً غالياً.
ألم يكن ممكناً لـ «المنشقين» أن يغيّروا مجرى الأمور في جمعيتهم الأم؟ هل وصلوا إلى قناعة بـ «العملية الجراحية الإصلاحية» التي دعا إليها رجل الدين البارز الشيخ حسين نجاتي لتصحيح حركة الجسد الوفاقي(...)؟ وفي قبال ذلك هل «الوفاقيون» معنيون بما يجري؟ كل عاقل ومتابع للمشهد السياسي يرد بالإيجاب سواء كان موقفه في خانة المباركة أو المعارضة لحركة الانشقاق الأخيرة. وما مدى تأثّر «الوفاق» بهذه الحركة؟ لا أحد ينفي وجود انعكاس للمخاض الجاري، غير أن المنشقين أنفسهم لم يعلنوا أن مشروعهم السياسي من شأنه سحب البساط من تحت تيار الجمعية الأم. فما يسجّل للوفاق دائماً أنها نجحت في خلق حال امتداد شعبي نظراً إلى كونها الشماعة التي علّق عليها الكثيرون أحلامهم وخصوصاً في أوساط تيار الانتفاضة.
عدد لا بأس به من المتابعين يرون أن الحركة التصحيحية في أوساط المعارضة عموماً والوفاق خصوصاً، باتت مطلباً ملحاً، وكثيرون هم الذين يرون أنه من الممكن التعويل على بعض الوجوه والقيادات الوفاقية في قيادة هذا المسار التصحيحي على رغم شراسة ونفوذ الجناح الراديكالي الذي يسقط التعددية ويشهر سيفه في وجه كل مناوئ لهذا الواقع المر.
فالوفاق بدورها استبقت حركة الانشقاق بمبادرات ورؤى تغييرية من قبيل خلق هيئة تعنى بتقديم المشورة في القرارات التي يناقشها مجلس الإدارة. خطوات مباركة لكنها غير كافية لمواجهة تحديات المرحلة.
لن نلغي خيار التعددية ومن المقبول الاحتكام إلى مختلف البدائل، ولكن قبل ذلك علينا دراسة وتجريب مختلف الخيارات واستنفاد الوسائل كافة، وبعدها التفكير في تغيير البدائل.
ولو تصفحنا صفحات الحركة السياسية البحرينية في عمقها التاريخي فسنرى أن ما يجري الآن من مخاضات ليس جديداً بالنسبة إليها، فتاريخ هذه الحركة غني بهذه التجارب منذ انتشار الوعي السياسي في ثلاثينات القرن الماضي، ومع ذلك الوعي برزت موجة الانشقاق التي عرفتها الحركات السياسية بتلاوينها المختلفة وتياراتها المتجاذبة. فهيئة الاتحاد الوطني التي سنحتفل بيوبيلها الذهبي بعد أيام شهدت خروج الكثير من الرموز التي لم ترتضِ أسلوب الهيئة. والتيار اليساري - كما الإسلاميون لاحقاً - عايشوا هذه الحال، فالجسم اليساري في البحرين لم يعد موحداً مع وجود أكثر من يدعي تمثيل هذا التيار، كما هو الحال تماماً بالنسبة إلى المعارضة الإسلامية التي انشقت إلى أجنحة عدة في الثمانينات، وحتى الشق الخارجي من المعارضة انقسم على نفسه في فترات زمنية مختلفة.
ويبقى القول في نهاية المطاف: هل أن «العدالة والتنمية» والتجمعات الأخرى التي تعتزم الانشقاق عن الكيان الوفاقي ربما لا تعي فعلاً ثمن الانشقاق في هذه المرحلة الحاسمة، وقبل ذلك هل من شأن حركة الانشقاق تلك أن تضيف جديداً في مجاري السياسة الراكدة؟ سؤال من الصعب الإجابة عنه، والأصعب هو التفكير فيه
إقرأ أيضا لـ "حيدر محمد"العدد 742 - الخميس 16 سبتمبر 2004م الموافق 01 شعبان 1425هـ