أكتب وأنا لا أزال في نشوة مشاهدتي لفيلم المخرج السينمائي المصري يوسف شاهين «إسكندرية... نيويورك». لقد استدرج المخرج كل حواسي البصرية والسمعية والحسية إلى أبعد مدى، إنه يضعنا تماماً أمام صورتنا والنفس وتناقضاتها وصراعها بين الأنا والرغبات، وأغنية الحجار في بداية الفيلم توحي بذلك، (... إزاي تكون أنت... وتشوف ظلام نفسك... إلخ).
طعم الحكاية ليس في ميزتها التي تسرد السيرة الذاتية ليوسف شاهين، أبداً، طعمها كان في رؤية الآخر، النقيض، المكروه، وفي التعامل معه على رغم المواقف المبدئية، في العمق الإنساني الذي يتعالى على السائد المهترئ الذي وصل مداه ويتجاوز النفس ويحاربها في أنانيتها، يتعالى على الخاص والذاتي إلا عندما يكون له مكان في مجاله العام، (... ليس أجمل من اللحظة التي أحس فيها أنني ملكٌ للآخرين، الفقراء البسطاء من العامة...).
السحر الآخر في الفيلم هو تذوّق الجمال في الموسيقى التي امتزج فيها الشرقي بالغربي، واللوحات الرائعة لرقصات البالية، والتداخل في إيقاعاتها بين الرقص الأندلسي والشرقي في آن، وكأنه يؤكد عدم استحالة التقاء الشرق والغرب. لقد امتطى التربية الشرقية بمساوئها وجماليتها التي تظهر رهافة إحساس الحب، وسر الشهامة العربية في عالم يتصف بالمادية والصلف. ومع ذلك أبرز جوانب من انسانيته في تعاطف أستاذته الأميركية التي درسته فن الإخراج في المعهد بالولايات المتحدة الاميركية.
إن الروافد التي يسوقها في الفيلم واضحة ومثيرة ومتشعبة، لكنها مترابطة مع بعضها بعضاً في مجال إدراك حسي مباشر. إننا أمام فيلم يتوافر على توظيف متقدم للتقنية السينمائية وبدرجة لا تقل عن تقنية الأفلام الهوليودية العالمية، إن لم تفقها في بعض الزوايا. هناك الكثير الكثير مما يستحق المشاهدة والتركيز، فهو جزء من الثقافة العربية المعاصرة التي نستطيع بها غسل هموم الحاضر
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 742 - الخميس 16 سبتمبر 2004م الموافق 01 شعبان 1425هـ