هناك الكثير من الحركات السياسية تختصر برنامجها بمطلب واحد «الإسلام هو الحل». هذا المطلب صحيح في جوهره إلا أن الاصح هو تحديد معنى المطلب والانتقال به من مستوى الشعار العام الذي لا خلاف عليه إلى مستوى أرقى في التفكير وهو «أين الحل في الإسلام».
الجانب الأول من المطلب (الإسلام هو الحل) لا يضيف الجديد على القديم بل ربما يسهم في تعطيل العقل الإنساني (والمجتهد المستنير) في تحديد الأسس المنطقية للمطلب، وتحويله من مسألة فكرية إلى مهمة فعلية. وهذه المهمة لا تكتمل شروطها الصحيحة من دون تفكير يحدد الاطر العامة للمطلب والانتقال منها إلى الاطر الخاصة. فلكل بيئة خصوصيتها وظروفها ولكل محيط إقليمي حياته المختلفة عن اقاليم أخرى. وبسبب هذا الاختلاف اختلفت قديما اجتهادات المجتهدين وتنوعت تفسيراتهم نظراً لتعدد الثقافات والمستويات. فالمبدأ واحد لم يتغير وانما الذي تغير هو الشرح والتفسير نظراً لاختلاف بيئة كل مجتهد عن الآخر. كذلك الأمر حصل على مستوى القضاء إذ اختلفت أحكام القضاة أيضاً بحسب البيئة والظروف وتنوع الاجتماع وتبدل مجرى الزمن. فهذه الأمور كان القضاة والائمة يأخذونها في الاعتبار قبل اصدار أحكامهم لأن لكل حكم وظيفته وظروفه وشروطه المحلية والزمنية.
إذاً البحث عن الأسباب والنظر في العلل وتحديد مصدر الاشياء وأنواعها، كانت تعتبر من مقومات الاجتهاد حتى تأتي الأحكام عادلة ومناسبة لظروف البيئة وتحولات الزمن. وهذا الاختلاف لا يعني ابداً تجاوز الأصول أو ان الأصل نفسه متضارب وغير متجانس. فالمبدأ في النهاية هو نفسه وانما الاختلاف جاء من تعدد انماط الحياة وتنوعها وتطورها.
الحكم الذي صدر قبل ألف سنة في إقليم معين مثلاً لا يمكن ان يسري على كل حال وزمان ومكان مهما تطور الاجتماع وتبدلت الأحوال وتغيرت الأزمان وتعدلت الامكنة. فالحكم العادل هو المقصود وبالتالي لابد ان يأخذ القاضي كل تلك الاختلافات في الاعتبار ويجتهد في النص في إطار البيئة التي يفتي فيها والظروف المحيطة بها والتطورات التي لحقت بالاجتماع خلال فترة مديدة من الزمان. فالاجتهاد هو الاجتهاد وأسسه معروفة وموجودة ومتفق عليها ولكن الاجتهاد المعاصر لابد أن يختلف عن اجتهادات سابقة من دون القطع معها أو القفز فوقها.
أصول الاجتهاد اتفق عليها قديماً وهي الكتاب والسنة والاجماع والقياس. وعندما جاء الإمام الشافعي أضاف عليها في رسالة «الأصول» علم لسان العرب (فقه اللغة) لطالب الشريعة خوفاً من «العَجْمة» وانزلاق المفسر نحو متاهات لا صلة لها بالنص بسبب ضعف الشارح أو القاضي في معرفة اللغة العربية ومعانيها. كذلك أضاف الإمام الشاطبي في القرن الثامن للهجرة مسألة «المقاصد»، وابتكر منهجية جديدة في تفسير معاني القرآن الكريم وفي تحديد شروط الاجتهاد وصدور الأحكام.
المسألة إذاً ليست مزاجية بل هي مشروطة بأصول علمية وقواعد منهجية وإلا تحولت موضوعة تطبيق الشريعة إلى مزايدات سياسية لا صلة لها بالمقاصد الشرعية التي وضعت أساساً لخدمة الإنسان والدفاع عن كرامته وحقوقه.
تطبيق الشريعة في النهاية ليس شعاراً للمزايدات السياسية بقدر ما هو يهدف إلى تعزيز العدل ورفع شأن الإنسان وحمايته من المخاطر والاضرار. وهذا لا يتم الا بتحديد الأسس الجديدة لفقه المعاملات وإعادة قراءة تحولات العمران ومراعاة ظروف كل بيئة حتى يكون «الحل من الإسلام» هو مطلب الجميع وليس سلاحاً تستخدمه فئة لمحاربة فئة أخرى.
حتى ابن خلدون في «مقدمته» لاحظ ذاك الاختلاف بين المذاهب، وفسر الأمر بانه يعود إلى اختلاف طبيعة العمران البشري بين الجزيرة العربية والعراق وبلاد الشام ومصر وبلاد المغرب. فإذا كان ابن خلدون لاحظ هذا الأمر قبل 500 سنة (أي قبل الاكتشافات الجغرافية والثورات الاجتماعية - الدينية في أوروبا وقبل الثورة الصناعية وصعود الاستعمار الحديث ودخول العالم ما يسمى عصر الانترنت والعولمة الحديثة) فلماذا لا نفكر مثله، ونعيد اكتشاف الاختلاف في ضوء معرفة تحولات الزمن وتغير العمران البشري؟
شعار «الإسلام هو الحل» مطلب صحيح ولكنه يدل على ذهنية جامدة وعقل بليد لا يريد البحث عن الأسباب أو النظر في العلل. فهذا النوع من التفكير صحيح ولكنه يدل على قوة فكرية قررت التقاعد وترك زمام الأمور لغيرها لتفعل فعلها وتجتهد عشوائياً وتورط الإسلام والمسلمين في معارك وكوارث يمكن تجنبها أو الاستغناء عنها. بينما في حال طُوّر الشعار وانتقل من الجمود (السكون) إلى الفعل (الحركة) واعيد طرح فقه المعاملات وفق معايير معاصرة تستوعب كل ما حصل في هذا العالم من تحولات وتطورات فيمكن آنذاك القول إن هذه هي الحلول الإسلامية للأزمات المعاصرة.
أين الحل في الإسلام هو الشعار العملي المطلوب للإجابة عن سؤال «الإسلام هو الحل». والحل المطلوب يفرض على المجتهدين فك القيود ومغادرة العزلة الزمنية والدخول مجدداً في مجال التفكير المعاصر في مشكلات معاصرة. فالادراك بالقوة غير الادراك بالفعل. فالنوع الأول موجود بفعل الزمن وبفضل الدفعة الأولى التي أطلقها الإسلام في لحظات اندفاع الدعوة من عصر الجاهلية إلى عصر التنوير والانوار. اما النوع الثاني فهو فاعل ومنفعل بظروفه وحوادثه وتحولاته وهو يستجيب للتحديات ويرد عليها ويجتهد لمعرفة قوانينها وأسبابها وعللها. وهذا يقتضي العودة عن الاستقالة والخروج من دائرة العزلة والانزواء ورفض كل المحاولات الدولية الظالمة وحملات التشويه المتتالية ضد الإسلام بقصد تخويف المسلمين واجبارهم على التقاعد المبكر بذريعة ان الشريعة اعطت ما عندها للعالم وللبشرية والإنسانية ولم يعد عندها الشيء الجديد لتقديمه للإنسان.
الرد على هذه الحملة العالمية لا يكون بتكرار طرح شعار «الإسلام هو الحل» كما تردد بعض الحركات السياسية بل بالعمل والاجتهاد وتقديم «الحل من الإسلام»
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 742 - الخميس 16 سبتمبر 2004م الموافق 01 شعبان 1425هـ