إذا كان جزءا مهما من السّاسة العراقيين يعتقد بـ «تفاهة المفاضلة» بين عهد صدام حسين وبين عهد الحكم الجديد اليوم، فإن ذات التفاهة المنبوذة قد تصمد أمام حقيقة المأساة التي يمرّ بها مسيحيو العراق اليوم.
فقبل سقوط بغداد في 9 أبريل/ نيسان 2003 تَرَكَت العراق وجبات متعددة من الهجرة المسيحية (ذات المسار الواحد) قُدِّرَت بمئتين وخمسين ألفا من أصل ثمانمئة ألف هم من تبقّى في العراق.
وقبل خمسة أشهر تقريبا هاجرت زهاء ألفين وخمسمئة عائلة مسيحية «موصلية» إلى القوش وبعشيقة وبطنايا وتلكيف وكرمليس وتل اسقف بعد أحداث القتل الشخصي ضدهم وحرق جزء من منازلهم، وإرغام بعضهم على دفع الجزية من بعض التنظيمات المتطرفة.
منذ أمدٍ بعيد ونحن نجد أن كثيرا من المُنظرّين يلوم المجاميع المسيحية في الشرق بأنها تُغيّب حاضرها وماضيها بارتباطها العضوي مع الغرب (السياسي) والاتّكاء على حمايته الحضارية، عبر الهجرة المنظّمة إليه.
لكننا ومع التثبّت من وجود مثل هذا الحيف ضدهم في مناطق أصيلة بالنسبة لهم كالعراق الذي أقاموا فيه منذ الحقبة السريانية، لن نتوقّع أقل من الاستنجاد بالأجنبي مرة أخرى لحمايتهم.
فهم باتوا يعتقدون بأنهم مازالوا أهل ذمّة، وأن المواطنة لم تُسعفهم، أو تدمجهم سياسيا وثقافيا داخل النسيج العام للوطن، فلربما تكون الخاصرة الدينية الأعم أقدر على فعل ذلك، وإن عبر دول علمانية يُغطّي هويتها المنسية دِيْنٌ مُقَلّم.
في العودة إلى التاريخ نجدُ أن هكذا حال هو أصله مُشكلة «شرقية» منذ أزيد من مئة عام. ثم إنها تمتد إلى مشكلة مسيحية دينية تسير ببطء نحو استيعاب مجتمع مسيحي متعدد المشارب والثقافات.
وما بين الحقبة التي سبقت القرن التاسع والحقبة التي تلته حديث أكثر تفصيلا بالنسبة لمسيحيي هذه المنطقة. فجزء من المعركة باتت تتشكّل على هيئة غياب «وعي متبادل» بين المسيحيين والمسلمين.
في مناطق كالعراق والشام ومصر وجنوب تركيا كانت شعوب هذه الأصقاع مسيحية بنسبة 95 في المئة إلى ما قبل الفتح العربي الإسلامي، باعتبار أنهم كانوا جزءا من الحضارية السريانية.
حيث أثّر ذلك على وجودهم بشكل غير مسبوق. بدءا من السياسة إلى الاقتصاد والثقافة، ثمّ تكلّل إلى الوجود والحضور والدور معا. على الرغم من أن المسيحيين هم من يرجع إليهم الفضل في ترجمة الإرث اليوناني وإقامة رافعات علمية كجامعة أورهي ونصيبين وسالسطيسفون.
في الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918) ثُقِبَ الوجود المسيحي «التركي» في جبل النساك وطورعابدين لتبقى بضعة آلاف فقط. وفي العراق خرج نصف المسيحيين منه منذ مذبحتي سميل (1933) وصوريا (1969) وأخيرا الأنفال (1987 - 1988).
وفي سورية قبل نحو قرن كان نسبة المسيحيين 25 في المئة أي ثلث السكّان. اليوم لا تتجاوز نسبتهم الـ 10 في المئة في أحسن الأحوال بعد الهجرة الواسعة من القامشلي وحلب والحسكة.
وفي فلسطين كانت نسبهم 13 في المئة. أما اليوم لا يُشكّلون سوى 3 في المئة. وهو ذات الحال بالنسبة لمصر ولبنان الذين كانوا من أهم الأوعية لتواجد المسيحيين. (راجع ندوة شئون الأوسط حول مسيحيي الشرق، العدد 130 خريف 2008).
في التقديرات الواردة فإن مُجمل الشرق العربي يعيش فيه اليوم 15 مليون مسيحي، وهو ذات العدد الذي كان يُساوي عددهم في العام 1516 في مناطق الشام ومصر وآسيا الوسطى وحدها، ما يعني أن تزايدهم الطبيعي كان سيصل بأعدادهم إلى 200 مليون. (راجع نفس المصدر).
في أجزاء الموضوع الغائبة، فإن الغطاء المسيحي العالمي يتحمّل جزءا من الإشكال. فالفاتيكان قد يُدافع بشراسة عن مسيحيي بولونيا أو الفلبين، وقد يبدو مبتهجا إن سَمِعَ بأن الكاثوليكيين قد ارتفعت أعدادهم من 266 مليون إلى مليار ومئة مليون دولار في بحر قرن واحد، لكنه غير معني أكثر من مراعاة سقوف التعبّد والصلاة بالنسبة لمسيحي الشرق!.
ماذا يعني أن يرتفع عدد المسيحيين (الكاثوليكيين على الطراز الغربي فقط) في إفريقيا جنوب الصحراء 6700 في المئة (من 1.9 مليون إلى 130 مليون) في حين نجد أن الحالة معكوسة جدا في المناطق العربية؟!.
والأكثر أن 25 في المئة من الكاثوليكيين كانوا يعيشون في العالم النامي في حين وصلت أعدادهم إلى 66 في المئة! (راجع ما كتبه جون ألين جونيور في Foreign Policy عدد نوفمبر/ تشرين الثاني - ديسمبر/ كانون الأول 2008).
اليوم يتمّ الحديث عن أن إيرادات البرامج الكاثوليكية في الولايات المتحدة وحدها تفوق المئة مليار دولار، يدعمها كادر بيروقراطي في روما يزيد على 2700 مسئول. وهي تُنفق على الأتباع والتبشير وممارسة الضغط. لكن يبدو أن شيئا من ذلك لم يَطَلْ مسيحيي المنطقة العربية، وبالتحديد ما يعانيه مسيحيوا العراق. (راجع نفس المصدر).
وربما يزيد اهتمامها بالتحوّل في استخدام اللغات العامية غير اللاتينية في القدّاس، أو إدراك الآراء اليسوعية والدومينيكية بشأن النعمة الإلهية في القرن السادس عشر، والحلّة الكهنوتية، أكثر من اهتمامها بشئون المسيحيين العرب، لربما نكاية بمن لم يتحوّل من النسطورية إلى الكثلكة، رغم اعتراف روما بخصوصية السريان.
على أيّة حال، فإن النظر إلى أوضاع المسيحيين في العراق بات يُشكّل ملمحا للطوائف السياسية الحاكمة اليوم. وربما تُصبح الحالة تحديا حضاريا وتاريخيا في عدم تكرار حروب القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والتي بها ضاع الإرث الكلداني السرياني.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2376 - الأحد 08 مارس 2009م الموافق 11 ربيع الاول 1430هـ