اليوم يوم إجازةٍ رسمية في البحرين والكثير من الدول العربية والإسلامية، احتفاء بذكرى مولد خاتم المرسلين.
هذه الذكرى ترتبط في الأعماق بصورةٍ غامضةٍ بالشعر والشعراء، لأنهم تفنّنوا في إحيائها عبر مدائحهم النبوية على مر العصور، إذ تشكّل أكبر الدرر في ديوان الشعر العربي. ولعل أول من استهل هذا التقليد المتوارث في الأدب العربي، حسّان بن ثابت (رض)، الذي يحفظ الجميع أبياته الجميلة في وصف الحبيب المصطفى (ص):
وأجمل منك لم تر قطّ عيني
وأجمل منك لم تلدِ النساءُ
خُلقت مبرّءا من كلّ عيبٍ
كأنك قد خُلقتَ كما تشاءُ
ومن أشهر المدائح قصيدة «البردة» المشهورة: «بانت سعادٌ فقلبي اليوم متبول»، لكعب بن زهير، الذي عاش يهجو الرسول دهرا، فلما ألقاها عفا عنه (ص) وألقى عليه بردته، تسامحا وتكريما.
بعد ستةِ قرون، خرج من إحدى قرى مصر شاعرٌ فقيرٌ أصله من المغرب، واسمه محمد بن سعيد الصنهاجي، وكنيته شرف الدين، حسن الديباجة، ويأتي بالمعاني الجميلة، يعيش في حياته على الشعر، وله عدة قصائد في المديح النبوي، إلا أن إحداهن كانت قلادة أشعاره، يبدأها كالعادة بالغزل وتذكّر الأحباب:
أمن تذكّر جيرانٍ بذي سلمِ ... مزجتَ دمعا جرى من مقلةٍ بدمِ
أم هبّت الريحُ من تلقاءِ كاظمةٍ ... وأومض البرقُ في الظلماءِ من إضمِ
فما لعينيك إن قلت أكففا همتا ... وما لقلبك إن قلت استفِقْ يهِمِ
وربما اشتهار القصيدة، إلى جانب عذوبة إيقاعها وحلاوة معانيها، ارتباطها بقصةٍ يرويها شارحو ديوانه، من تعرّضه لمرض الفالج (الشلل النصفي)، ولما طالت آلامه كتبها طمعا بالشفاء، فكان أن رآى في المنام النبي (ص) فقرأها عليه فمسح (ص) على جسمه، فقام من نومه معافى كما يقول الرواة.
في العصر الحديث، ومن مصر العريقة أيضا، خرج أحمد شوقي ليعارض قصيدة البوصيري، في «نهج البردة»، ناسجا على منوالها:
ريمٌ على القاعِ بين البانِ والعلَمِ ... أحَلّ سفكَ دمى في الأشهرِ الحُرُمِ
لما رَنا حدّثتني النفسُ قائلةِ ... يا ويح قلبِكَ بالسهمِ المُصيبِ رُمي
جحدتُها وكتمتُ السهمَ فى كبديِ ... جرحُ الأحبة عندي غير ذي ألمِ
يا لائمي في هواهُ والهوى قدَرٌِ ... لو شفّك الوجْدُ لمْ تعذلْ ولم تلُم
لقد أنلتك أذْنا غير واعيةِ ... ورب مستمعٍ والقلبُ في صَمَمِ
شاعر اليمن الكبير عبدالله البردوني وقف أيضا في هذه الذكرى ليملأ كأسه من هذا النمير فقال:
حيّ ميلادَ الهدى عاما فعاماِ ... واملأ الدنيا نشيدا مستهاما
جلّ يومٌ بعث اللهُ بِ ... أحمدا يمحو عن الأرض الظلاما
ويتيما فتبنته السماِ ... وتبنّى عطفه كل الـيتامى
أشعار خضلةٌ تذوب رقة وعذوبة وجمالا، تنقلك من عالم البؤس والتناحر والاستئثار، إلى عالمٍ من الروح والعشق والسمو، في عصرٍ بدأت نذر الردّة تطفو على السطح. فهناك من أقام نفسه حارسا على عقول الناس، وقاضيا على العقائد وما تحوي الصدور... فبدأ أولا بالبوصيري يحاكم شعره بأدوات غير شعرية، فاتهموه بالشرك! ولو طال لهم التمكين في الدنيا لأحضروا للمحاكمة أحمد شوقي... ليتفرّغوا أخيرا لمحاكمة كعب بن زهير وحسان بن ثابت شاعر الرسول!
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2376 - الأحد 08 مارس 2009م الموافق 11 ربيع الاول 1430هـ