استطاع الشهيد الصدر أن يتجاوز الاهتمامات التقليدية والمشاغل المعروفة بين الاسلاميين الى الاهتمام بالإشكالات الراهنة التي تواجه الاسلام والمجتمعات الاسلامية، فشمر ساعده لمنازلتها، من خلال مشروع معرفي متكامل، بدأ بقراءة المذاهب والمناهج الغربية الوافدة، وتحليلها وتفكيكها ونقضها، وبالتالي رد الغرب الى حدوده الطبيعية التي ولد فيها، وبيان ان منظومة معارفه هي نتاج بيئته وتاريخه الخاص، بما يكتنف هذا التاريخ من منعطفات، وما يتحكم به من مسار خاص، انحرف عن هدي السماء وارتكس في أوحال المادية، ودراسة فكره على انه جزء منه، وانه محكوم بتاريخه هذا وليس خارج التاريخ، ومن ثم اعادة الاعتبار (للأنا) والقضاء على عقدة النقص وروح الانبهار التي وقع في اسرها بعض رواد الاصلاح في القرن التاسع عشر في العالم الاسلامي، حين التقوا المدنية الغربية اول وهلة، فأضحوا غير قادرين على اكتشاف الأنا (الذات) الا من خلال مرآة الآخر.
وانتهى الشهيد الصدر الى اعادة تشييد الاسس والمقومات الاساسية لفلسفة اسلامية معاصرة، تجد فيها الأنا صورتها الحقيقية، بعد ان تعرضت هذه الصورة للمسخ والتشويه، بفعل ما كان يحدده الباحثون الغربيون من ابعاد مزيفة لهذه الصورة، قد يكون انتهاب ثقافات الشعوب، والاجهاز على موروثها الحضاري، احد تلك الابعاد، او بفعل ما التقطه المفكرون والكتّاب في ديارنا من وعي زائف عن اولئك الباحثين، وراحوا يعملون على اشاعة هذا الوعي والتثقيف عليه، كما نجد ذلك بنحو واسع في الفكر العربي الحديث منذ القرن التاسع عشر.
لقد اسهم العطاء الفكري للشهيد الصدر في التبشير بنمط جديد من الوعي بالاسلام ومناهج التفكير الاسلامي، واكتشاف تهافت المرتكزات المادية للفكر الغربي الحديث، وتفنيد التصور الذي قدمه هذا الفكر عن الكون والانسان والتاريخ، وتحديد الحدود الدقيقة لمساحته التي يمكن ان يقول فيها كلمته، ونقض دعوى العلمية في بعض الفلسفات الاوروبية الحديثة، وانهاء هذه الاسطورة في المادية الديالكتيكية، باعتبارها الفلسفة الوحيدة ذات الرؤية العلمية.
وبذلك اضحى الشهيد الصدر مؤسساً او مواصلا التأسيس لخطاب اسلامي جديد، لا يقتصر على النقد المنهجي للفكر الغربي واسقاطاته في الفكر العربي الحديث، وانما يتجاوز ذلك الى العمل على اعادة الثقة بالعناصر والمقومات الذاتية للامة المسلمة، وبعث عناصر الحياة واستدعاء روح الابداع الكامنة في تراثها وماضيها، لان اية محاولة للبناء والتنمية لا تقوم على الامكانات الذاتية للامة، لا يمكن ان تتقدم خطوة واحدة الى الامام، طبقاً لما قرره الشهيد الصدر في ان حركة الامة كلها شرط اساسي لانجاح أية تنمية، وأية معركة شاملة ضد التخلف، لان حركتها تعبير عن نموها، ونمو ارادتها، وانطلاق مواهبها الداخلية، وحيث لا تنمو الامة لا يمكن ان تمارس عملية تنمية، وتجربة الانسان الاوروبي الحديث، هي بالذات كإطارات لعملية التنمية لم تسجل نجاحها الباهر على المستوى المادي في تاريخ اوروبا الحديثة الا بسبب تفاعل الشعوب الاوروبية مع تلك المناهج وحركتها في كل حقول الحياة، وفقاً لاتجاه تلك المناهج ومتطلباتها واستعدادها النفسي المتناهي خلال تاريخ طويل لهذا الاندماج والتفاعل، فحين نريد ان نختار منهجاً او اطاراً عاماً للتنمية الاقتصادية داخل العالم الاسلامي، يجب ان نأخذ هذه الحقيقة اساساً ونفتش في ضوئها عن مركب حضاري قادر على تحريك الامة، وتعبئة كل قواها وطاقاتها للمعركة ضد التخلف، ولا بد حينئذ ان ندخل في هذا الحساب مشاعر الامة، ونفسيتها، وتاريخها، وتعقيداتها المختلفة (1).
ولو حاولنا ان نراجع فكر الشهيد الصدر سنجد انه يؤكد في كل ما كتب ما اسماه بالمركب الحضاري في الامة، المركب الذي يتأتى من هوية الامة، وعقيدتها وتراثها، وتاريخها، ويمثل الشرط الاهم في نهوض الامة وخروجها من نفق التخلف.
التنظير في فكر الشهيد الصدر
اتسمت اعمال الشهيد الصدر بأنها تعبير عن محاولات منهجية جادة لتأصيل نظرية اسلامية في كل حقل من حقول المعرفة الاسلامية التي اهتم بالكتابة فيها.
ولو حاولنا ان نتعرف بدقة على ما تسعى مجموعة مؤلفاته لتأسيسه، سنلاحظ بوضوح انها تنتظم في مشروع واحد، وهو محاولة تحديد اطار نظري في بحث ودراسة الفكر الاسلامي، وتحديد منهج آخر في البحث يتواءم مع متطلبات الحياة المعاصرة.
وبكلمة اخرى ان الهم الاساسي الذي يضطلع به مشروع الشهيد الصدر هو الحرص على اكتشاف نظريات الاسلام في التاريخ، والاقتصاد، والسياسة، والمجتمع الخ، فهو مكتشف كبير دأب على الاخذ بمنهج التفكير الاسلامي نحو آفاق جديدة لم يعهدها هذا التفكير من قبل، الا بصورة محدودة في اعمال بعض المفكرين المسلمين ممن سبقوه، فيما كان هذا التفكير يتحرك في دائرة المنهج المتوارث في معاينة مشكلات الحياة، والتعرف على مواقف الشريعة منها، ولذلك ظل يكرر الاجابات ذاتها على هذه المشكلات، من دون ان يتمكن من اكتشاف فضاءات اخرى يغور من خلالها في وقائع الحياة، ويستنطق القرآن الكريم والسنة الشريفة، لكي يقول الاسلام كلمته المطلوبة ازاء تلك الوقائع.
لقد توافرت مؤلفات الشهيد الصدر على اتجاه جديد تخطى من خلاله الفكر الاسلامي الحديث الحال التقليدية التى ارتهن فيها، وأضحت للاسلام كلمته في مواجهة الايديولوجيات الاخرى، إذ برز الاسلام كأيديولوجيا معاصرة تنفي كل التهم الظالمة، وتمتد لتستوعب كل مشكلات الانسان، وتقدم الحلول الناجعة لها، وتتسع لتغطي تمام حاجات ومتطلبات المجتمعات الحديثة من مقولات ونظريات، ونظم، وقوانين.
وفي مراجعة سريعة للتراث الفكري للشهيد الصدر سنجد ان محاولة التأصيل النظري تنبسط على تمام اعماله، على رغم تواصلها في الصدور ما يزيد على العشرين سنة، فمثلا نراه في «اقتصادنا» ينجز الخطوة الاولى الأهم على طريق مشروع اكتشاف وصوغ المذهب الاقتصادي في الاسلام، وهي محاولة لم يسبق بها من قبل فيما نعلم.
وبغية ان نتعرف على ملامح هذه المحاولة، ينبغي ان نقرأ ما توخاه لها الشهيد الصدر، وما توخاه منها من دور مأمول في حركة تطور الفكر الاسلامي، وما يمكن ان تبشر به وتشيعه من منحى جديد في منهج الدراسات الفقهية وتأصيل النظم الاسلامية، وما تمتاز به هذه العملية عن ما يناظرها من دراسات في المذاهب الاخرى، وبذلك يحدد بشكل واضح وجهة البحث في عملية الاكتشاف التي ينجزها المفكر الاسلامي في اشادة اركان ورسم معالم المذهب الاقتصادي في الاسلام، والمفكر الاقتصادي الغربي الذي يمارس عملية ابتكار وتكوين المذاهب الاقتصادية الاخرى، فالمفكر الاسلامي امام اقتصاد منجز تم وضعه، وهو مدعو الى تمييزه بوجهه الحقيقي، وتحديده بهيكله العام، والكشف عن قواعده الفكرية، وابرازه بملامحه الاصلية، ونفض غبار التاريخ عنها، والتغلب بقدر الامكان على كثافة الزمن المتراكم والمسافات التاريخية الطويلة، وايحاءات التجارب غير الامينة التي مارست ولو اسمياً عملية تطبيق الاسلام، والتحرر من اطر الثقافات غير الاسلامية التي تتحكم في فهم الاشياء، وفقاً لطبيعتها واتجاهها في التفكير، ان محاولة التغلب على كل هذه الصعاب، واجتيازها للوصول الى اقتصاد اسلامي مذهبي، هي وظيفة المفكر الاسلامي.
وعلى هذا الاساس يمكن القول إن العملية التي نمارسها - والقول للشهيد الصدر - هي عملية اكتشاف، وعلى العكس من ذلك المفكرون المذهبيون الذين بشروا بمذاهبهم الرأسمالية والاشتراكية، فانهم يمارسون عملية تكوين المذهب وابداعه (1)
إقرأ أيضا لـ "عبدالجبار الرفاعي"العدد 742 - الخميس 16 سبتمبر 2004م الموافق 01 شعبان 1425هـ