العدد 2376 - الأحد 08 مارس 2009م الموافق 11 ربيع الاول 1430هـ

دارفور بين الإنساني والسياسي

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

شكل صدور مذكرة التوقيف عن «المحكمة الجنائية الدولية» بحق الرئيس السوداني عمر البشير مناسبة لإعادة النقاش بشأن وظيفة هذه المذكرات والقرارات والأهداف المتوخاة منها. فالنقاش أنعش الذاكرة وفتح ملفات وأطلق موجات ارتدادية بين مؤيد ومعارض.

المؤيدون للمذكرة نظروا إلى المسألة من زاوية إنسانية مجردة عن السياسة والمصالح. المعارضون للمذكرة تعاملوا مع المسألة القانونية من زاوية سياسية ترى فيها مجرد استثمار دولي لتغذيه مصالح خفية (أجندات سرية) تخطط الدول الكبرى لها منذ العام 2002 وما قبل.

الموقفان يعتمدان على شرعية أخلاقية في الحكم على مذكرة قانونية غير قابلة عمليا للتنفيذ ولكنها نظريا قد تساهم في مفاقمة أزمة إقليم دارفور وربما جرجرة السودان إلى مزيد من «الفوضى الأهلية» بسبب نمو مشاعر الخوف لدى قيادة الخرطوم مقابل ارتفاع معنويات المجموعات السياسية المسلحة التي تتحرك في دارفور ما يرجح احتمال اندفاعها نحو مغامرات عسكرية.

الاختلاف في التعامل بين رؤية إنسانية محض أخلافية وبين نظرة سياسية مجردة عن القانون أو معزولة عن الفضاءات الإقليمية والدولية وأصحاب المصلحة في تقويض استقرار السودان وأمنه يشيران إلى وجود معضلة في التعاطي المسئول مع مسألة قيمية تحتمل الزاويتين: الجانب الإنساني والجانب السياسي.

أزمة دارفور أصلا سياسية وهي تأسست على مجموعة عوامل آنية ومتوارثة تراكمت زمنيا بسبب تهميش المركز للأقاليم وعدم انتباه العاصمة للأطراف. وهذا النوع من الإهمال السياسي تطور سلبا على مستوى تفاوت النمو الاجتماعي والاقتصادي والصحي والتربوي بين جماعات أهلية تعيش في وسط السودان وأخرى تعيش على حدوده الممتدة إلى الجنوب (إفريقيا) والغرب (خط ما تحت الصحراء الكبرى).

التفاوت في النمو بين المركز (الوسط) والأطراف (الأقاليم) فتح أبواب الأزمة على دول الجوار ما أدى إلى أعطاء فرصة للتدخل في شئون السودان وصلاحيات الدولة السيادية. التدخل الدولي جاء بناء على معطيات إنسانية ولكنه ليس معزولا عن السياسة ولعبة المصالح الدولية وأصحاب نظريات يضغطون باتجاه إعادة رسم الخريطة الجغرافية - البشرية للسودان وإفريقيا.

الجانب الإنساني لا يمكن إسقاطه من معادلة القراءة باعتباره شكل «القفاز» للتدخل السياسي من خلال شبكات ومنظمات دولية تعتني بشئون إيواء اللاجيئن في مخيمات وتأمين متطلباتهم الغذائية والصحية والتربوية. كذلك لا يمكن إسقاط الجانب السياسي من تفصيلات القراءة والحفر في الذاكرة الإنسانية والتجارب السابقة للتعرف على عناصر ومواد أولية أخرى قد تكون السبب الدافع وراء هذا الاهتمام الخاص بمشكلة دارفور.

المسألة إذا يمكن قراءة حيثياتها التاريخية على أكثر من احتمال وخصوصا أنها تعتمد على خريطة بشرية ملونة في إبعادها الدينية والقومية والعرقية والثقافية واللغوية. فهناك منظمات دولية تريد الايحاء بأن المواجهة هي بين العرب والأفارقة أو بين قبائل مسلمة من أصول عربية وقبائل مسلمة من أصول إفريقية. وهناك منظمات أخرى تريد إثارة فتنة تقوم على فكرة اضطهاد العرب للأفارقة في جنوب السودان لتأكيد مقولة عدوان الشمال السوداني (العربي المسلم) على الجنوب السوداني (الإفريقي المسيحي أو الوثني).

كل هذه التحليلات التي صدرت خلال عقدين من الزمن أشارت في خلاصاتها إلى مجموعة اقتراحات منها من يطالب بتقسيم السودان بين شمال وجنوب ومنها من يقول بأن السودان دولة هائلة في جغرافيتها ومترامية الأطراف في امتدادها السياسي - الحدودي ولابد من تقسيمها وتوزيعها على دويلات (فيدراليات) تتوزع إدارتها وثرواتها هيئات محلية متجانسة.


تشطير السودان

الكلام إذا عن مساحة السودان وتنوعه البشري والديني واللغوي واللوني والبيئي والمناخي ليس جديدا ولم يتكون بعد انقلاب البشير وسيطرته على الحكم. حتى الأحاديث التي تقترح تشطير السودان وإعادة توزيعه على حكومات مناطقية ظهر على أكثر من مستوى في مراكز البحوث والقرارات في أوروبا وأميركا منذ نهاية الخمسينات ومطلع الستينات.

فكرة تقسيم السودان ليست جديدة ولكنها لم تكن ناضجة وغير قابلة للترويج والتسويق بسبب عدم وجود مبررات كافية للعمل بها. وهذا ما دفع بعض القوى المتربصة إلى اختلاق الأزمات وأحيانا الاستفادة من الأخطاء والسقطات واستخدامها كذرائع تعطي حيوية لمشروع التقويض وتكسبه شرعية دولية للتعامل معه بجدية انطلاقا من نظرية ضعف «الدولة الوطنية» وعدم قدرتها على بسط نفوذها وصلاحياتها وبالتالي ممارسة سيادتها على مجمل المناطق والمجموعات السكانية.

الكلام عن الجانب السياسي لا يعني تلخيص الأزمة من خلال التأكيد على وجود «مؤامرة» مدبرة ومفتعلة، كذلك لا يغطي بالضرورة تلك الأخطاء والتجاوزات التي أدت إلى فتنة أهلية أودت بحياة الآلاف وشردت عشرات الآلاف داخل الإقليم أو طردتهم إلى الحدود الدولية مع تشاد. الكلام عن السياسة محاولة للحفر في الأزمة الإنسانية بقصد اكتشاف دوافعها وإبعادها وخلفياتها حتى لا تسقط القراءات في مصيدة السذاجة الأيديولوجية وتسطيح المشكلة وتحويلها إلى جمعية الرفق بحقوق الإنسان.

الحكومات السودانية المتعاقبة تتحمل مسئوليات كبيرة في هذه الأزمة وغيرها من مشكلات. وهذا الأمر لا يعفي الدول الكبرى من مسئولياتها بدءا من عهد الاستعمار البريطاني الذي أتقن مجموعة أساليب للتفرقة بين الشمال والجنوب سواء على مستوى منع استخدام اللغة العربية في المعاملات الرسمية والتجارية أو على مستوى بعثات التبشير التي اشتغلت لسنوات وعقود في الجنوب لتكوين نواة بروتستانتية تابعة للكنيسة الانغليكانية بقصد استخدامها سياسيا بعد انتهاء فترة الانتداب وخروج «الأجنبي» من السودان.

الأزمة لم تبدأ في الماضي القريب وإنما تشكلت وتأسست رويدا في الماضي البعيد وأخذت تتطور وتتراكم لتصبح قابلة للاشتعال حين تتوافر الظروف الإقليمية والدولية المعطوفة على أزمة سلطة في الداخل وصراعات أجنحة تتنافس على إدارة الدولة. وهذه الأزمة المتنوعة والمتولدة من مجموعة أسباب بعيدة وقريبة طبخت على «نار هادئة» وتم تغليفها بالغطاء الدولي والإنساني حتى تكون جاهزة للقطاف أو الهضم.

السياسة ليست بعيدة عن أزمة دارفور لأن الأزمة في أساسها سياسية. والجانب الإنساني عن الأزمة ليس مستبعدا بالمطلق لأن النتائج التي ترتبت عن المسألة ساهمت في توليد إشكالية دستورية أممية تطرح تحديات قانونية على ترتيب الأولويات وعن حق الدول الكبرى بالتدخل في شئون السيادة.

هذا التجاذب الفقهي بين الدولي والقومي يتقارب في حيثياته القانونية مع انقسام التعاطف على مسألة دارفور بين رؤية تنظر إلى المأساة مجردة عن السياسة وبين قراءة تعيد هيكلة الأزمة بمعزل عن الإنسانية.

المؤيدون والمعارضون على خطأ في جانب وصواب في جانب لأن مصالح الدول تشكل الوجه الآخر للعبة الأمم. واللعبة عادة لها شروط، والشروط لها قواعد، والقواعد تعتمد آليات، والآليات تحتاج إلى ذرائع لتبرير التحرك. وكل هذا توافر في أزمة إقليم دارفور وهي أزمة مرشحة للتصاعد والتداعي إذا لم تتدارك حكومة الخرطوم خطورة المسألة وتسعى إلى احتواء أسبابها بعيدا عن الانفعالات والخطابات الحماسية والتصريحات البخارية.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2376 - الأحد 08 مارس 2009م الموافق 11 ربيع الاول 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً