في إجابته عن سؤال أميركي بجدارة، وهو «لماذا يكرهوننا؟»، يقول علي الصراف: «إن الذين يسألون ذلك السؤال يعوّلون على احتلال موقع الضحية. يعوّلون على خلع البراءة على كل ما يتصل بسياساتهم، ليعوّلون - بالتالي - على نشر هالة ملائكية على الرد والانتقام. ولجعله، خصوصاً، أكثر وحشية، وأكثر تبرؤاً من القيم والقوانين والأعراف، ولجعله ساحقاً ماحقاً ولا يتسم بأي مقدار من الرحمة. فالضحية التي تملك القوة على الانتقام، ليست كأية قوة أخرى. الضحية القادرة على الانتقام، ليست مضطرة، إلى عقلنة انتقامها، كما تضطر أية قوة أخرى لا تجلس في موقع الضحية». (من مقال «لماذا يكرهوننا؟ ولكن، على ماذا نحبكم؟»).
الأمر الأكثر غرابة في هذا الموضع، إن هذا السؤال يأتي متساوقاً مع الكثير من الأفعال والأقوال الأميركية التي لا تعطي مجالاً حتى للتفكير من الطرف الآخر (الكاره) ليبدي إنصافاً في الإجابة.
التمسك بالعروة الأميركية الوثقى
فقد كانت الملفات شبه ناجزة لدى الإدارة الأميركية ومعاونيها والمتبرعين في شحنها ضد «العدو الجديد»، فما هي إلاّ أيامٌ حتى كانت الولايات المتحدة تغلق الجمعيات الخيرية الواحدة بعد الأخرى بحجة تمويلها للإرهاب، وتجمد الحسابات، وتهدد من يمكن أن يمد المساعدة إلى أهالي الاستشهاديين من «حماس» أو «الجهاد الإسلامي»، وبات تصنيف «مع وضد» يتسع ليبلع معه الجميع، ولم ينجُ الملأ إلا بالتمسك بالعروة الأميركية الوثقى، بإعلانهم البراءة من كل ما هو قريبٌ من روح النضال والتحرّر والجهاد والاستقلال والاعتماد على الذات في البناء والتنمية، على أن يبقوا تحت الملاحظة طيلة حياتهم، وأن يأتوا إلى قسم الشرطة الأميركي ليوقعوا أنهم لايزالون ملتزمين بمكافحة الإرهاب بتعريفه الأميركي وهو التعريف الذي يستثني اميركا نفسها، وأميركا لا تتنازل أبداً عن إجاباتها الاعتباطية لمجموعة مواقفها من القضايا العربية، ولا تعتذر ولو لمرة واحدة (كما لم تعتذر للتاريخ عن استرقاقها حوالي أربعمئة ألف إفريقي) عن حزمة «الفيتوات» التي طالما رفعتها في سبيل مجرد «توبيخ» الكيان المحتل، فالعرب يتذكرون موقفاً وحيداً، فريداً لن يجود الزمان به مرة أخرى عندما ندد الرئيس الأميركي السابق دوايت أيزنهاور، بالعدوان الثلاثي على مصر، ربما لم يكن الأمر حينها منطلقاً من موقف مبدئي، بقدر ما هو تأديبي للقوى الاستعمارية الآفلة بأن تلزم حدودها وألا تتحرك دولياً إلا باستشارة أميركية.
فهذه مستشارة الرئيس الأميركي للأمن القومي كوندليزا رايس، تقول في خطاب عن الاستراتيجية الأميركية ضد «التطرف الإسلامي» ألقته أمام المعهد الأميركي للسلام بواشنطن العاصمة: «هناك في العالم الإسلامي أقلية صغيرة من المتطرفين الذين - بالطبع - يكرهون أميركا وسيكرهون أميركا دائماً. إنهم يكرهون سياستنا، وقيمنا، وحرياتنا، ومُجرّد طريقة حياتنا. عندما يُعبّر عن تلك الكراهية بواسطة العنف الإرهابي، هناك جواب واحد مناسب، وهذا الجواب هو أنّ علينا أن نعثر على هؤلاء الإرهابيين وأن نهزمهم، وأن نهزم الذين يسعون إلى قتل شعبنا، وإيذاء بلدنا».
لم تقل رايس لماذا لا «يكرهون» السويد مثلاً أو الدنمارك، ولماذا يتقصدون الدول التي طالما أوجعتهم ليردوا إليها بعض الصفعات. ولكن رايس نفسها، تقول في الخطاب نفسه، بأن الإرهابيين يقولون لهم: «أنتم تحبون الحياة، أما نحن فنحب الموت»، وعلى هذا تستند مستشارة الأمن القومي في تفسيرها للسبب الذي من أجله يضحي أناس بأنفسهم في سبيل توجع قاتلهم... ولو قليلاً. وكان الأجدر بها أن تسأل: «لو أمن العرب والمسلمون على أنفسهم ومعتقداتهم ولاقوا معاملة دولية عادلة، ولم تنهب القوى العظمى خيراتهم وتتركهم يتخبطون، ولو لم تساند أميركا الطغاة والدكتاتوريين في ترسيخ كراسيهم، ولم تزرع في وسطهم كياناً تتبجح ليل نهار بالتزام أمنه وتفوقه... هل لهم أن يفضلوا الموت على الحياة؟».
إن من يلجأ إلى الانتحار/الاستشهاد في سبيل حرية من يأتي بعده، أو لكي «يخربش» مارداً عملاقاً، يعتقد جازماً أن المواجهة معه خاسرة؛ يعني أنه فقد كل أمل في العدل، وأن الأبواب سدت في وجهه لحياة كريمة، وهذه التربة الأخصب لتربية الأفكار المنحرفة والبدائل الأكثر تطرفاً وسوداوية.
في هذا الشأن يرى الكاتب الصحافي في صحيفة «نيويورك تايمز» نكولاس كريستوف، في مقال كتبه بعنوان «مساندتنا للدكتاتورية السبب... رؤية أميركية... لماذا يكرهوننا؟!»، بأن كوريا الجنوبية - التي تعد واحدة من أكثر الدول موالاة للولايات المتحدة - شهدت في العام 1987 مظاهرات أمام مبنى البلازا في العاصمة سيئول، للمطالبين بالحرية، حينها أحرق الطلبة الأعلام الأميركية وسط هتافات وتهليل 100 ألف متظاهر، هذا بينما الاستقلال الكوري الجنوبي روي بالدم الأميركي».
كريستوف بحث عن الإجابات التي يبدو أن رايس غير مهتمة بها، لأن رايس تستغرب - في خطابها المذكور آنفاً - عدم تقدير مليار من المسلمين حول العالم للحروب الخمسة التي خاضتها الولايات المتحدة للمسلمين ونيابة عنهم، في الكويت والبوسنة وكوسوفو وأفغانستان والعراق، لتخليص هذه الشعوب من أنظمة دكتاتورية، ووقف المذابح والتطهير العرقي، بينما كريستوف لاحظ أن العداء لأميركا قد تناقص في كوريا الجنوبية، وعندما سأل السفير الأميركي هناك عن السبب قال له: «لقد تقلصت تلك المشاعر؛ لأن الناس هنا لم تعد تنظر إلى الولايات المتحدة على أنها تدعم الأنظمة العسكرية القمعية في كوريا».
يخلص كريستوف إلى مجموعة من النقاط المهمة من ضمنها، أن على أميركا أن تلتحم بالشعوب لا أن تساند الحكام، وأن عدم وجود سفراء كافين يتحدثون لغات البلاد التي يذهبون إليها، ويشاركون في المناسبات والأحاديث التلفزيونية لشرح وجهة نظرهم يسبب هذه الانفصالية بين الطرفين، ويصل إلى آخر الدروس من وجهة نظره، «سنكون في وضع أفضل عند دعمنا للديمقراطية في تلك البلدان وحتى حق حرق الأعلام الأميركية. فعندما كان مُتاحاً للكوريين التنفيس عن غضبهم في نهاية الثمانينات ومطلع التسعينات تبدد الإحباط وانتهى».
إعلام الحرير لا التفسير
نعود إلى رايس التي ذكرت في ذلك الخطاب أن الولايات المتحدة بذلت ما بين 30 مليونا و40 مليون دولار لإنشاء إذاعة «سوا» التي وصفتها بـ «الناجحة»، وإذاعة أخرى بالفارسية، وقناة «الحرة»، وعقدت الآمال بأن تكون هذه الوسائل الدعائية خير سبيل لنشر المبادئ الأميركية بشكل يتشربه الناس ويسري في عروقهم! ولكن اثنين من أبناء جلدتها هما شلتون رامبتون وجون ستاوبر، كانا قد وضعا كتاباً تحت اسم «أسلحة الخداع الشامل» (على غرار أسلحة الدمار الشامل المزعومة) يدعوان فيه الإدارة الأميركية، إلى عدم إضاعة الوقت وتبديد المال في ما لا يجدي نفعاً، فـ «الضحايا يحتفظون في ذاكرتهم بمعاناتهم لفترة أطول بكثير مما يحتفظ بها الجناة، لكن لسوء الحظ فإن هؤلاء الذين ينسون الماضي يميلون إلى تكراره، وهذا ما يفسر لماذا يستمر القادة الأميركيون في تبني الاستراتيجيات الدعائية نفسها التي اعتادوها منذ الخمسينات، بدلاً من تغيير الطريقة التي نتعامل بها مع شعوب الشرق الأوسط، فهم يطمحون إلى تغيير صورتهم عبر حملات تسويق يتم طبخها في هوليوود أو على شارع ماديسون». إذ يريان أن الحملات الأميركية التي ركزت على ممارسة المسلمين في الولايات المتحدة لحريتهم العقائدية لم تغير من الأمر شيئاً، لأن أصل المشكلة لم تتم مناقشته في هذه الحملات، الحملات كانت صحيحة وليست ملفقة، ولكنها ما كانت تتطرق أبداً إلى النزاع العربي الإسرائيلي والتدخل الأميركي في المنطقة، فالأفعال - بالنسبة إلى الناس - أقوى وأبعد أثراً من الأقوال والادعاءات، والإدارة الأميركية التي لا تريد، أو لا تقوى على مواجهة اللوبي الصهيوني (إيباك)، وتريد أن تسوّق شارون في العالم العربي - خصوصاً - على أنه رجلٌ محبٌ للسلام، ولكن الفلسطينيين لا يساعدونه، ستجد دعايات من مثل هذه آذاناً صماء وقلوباً يملؤها الحقد والكراهية على هذا الاستخفاف بأرواح من قضوا نحبهم في الجانب الفلسطيني على يدي رئيس وزراء «الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط»!
«لهذا يكرهوننا؟»... هذه الإجابات التي بدأت تتسرب إلى الشارع الأميركي منذ أن زالت عنهم آثار الصدمة من 11 سبتمبر/ أيلول تشيح الأجهزة العليا بوجهها عن الإجابات، وتحاول - غالباً - التقليل من شأنها، ودفعها إلى الزوايا المعتمة، وتصوير من يأتي بهذا النوع من الإجابات - التي يراها العرب والمسلمون منطقية - بأنهم مهووسون بالخروج عن النسق العام للتفكير الذي يراد له أن يسود في الولايات المتحدة اليوم، وهو أن العالم جاحد، ولا يقابل «الأفضال الأميركية» إلا بالنكران، نتيجة الحسد من النعيم الذي تعيشه
إقرأ أيضا لـ "غسان الشهابي"العدد 741 - الأربعاء 15 سبتمبر 2004م الموافق 30 رجب 1425هـ