بعد الفضائح التي عصفت بسجن «أبوغريب»، تذكّر العالم أن سجوناً كثيرة تحكم الولايات المتحدة الأميركية قبضتها عليها... تذكر العالم سجون أفغانستان ومعتقل غوانتنامو. يضاف اليهم السجناء العرب في الداخل الأميركي والذين أخذوا بالظنّة والشبهة.
ما الذي يحدث هناك وخصوصاً في غوانتنامو؟
العزل هناك مركّب، وهي المرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية التي يلتقي فيها سجناء من دول متباينة من حيث الجغرافيا أو اللغة أو حتى الأهداف في مكان واحد بعيداً عن بلدانهم ولغاتهم وأهدافهم. وحين أشرت الى أن العزل مركّب فهو كذلك من حيث إنه عزل عن عالمين: عالم خارج غوانتنامو كمحيط مكاني معزول بالطبيعة أو هكذا حولته الصراعات، وعالم/ جغرافيا البشر الذين سيقوا الى الجحيم الأميركي في ذلك الجزء من العالم.
الشهادات القليلة التي تسربت إلى العالم عن طريق سجناء تم إطلاق سراحهم من المعتقل المذكور تطلق عنان تخيلنا وبتعبير أدق تطلق لذوي وعائلات المعتقلين عنان تخيل ما يتعرض له أبناؤهم من ممارسات تندرج تحت مسمى الفظاعات وجرائم الحرب ليس فقط لأن فضيحة سجن أبوغريب عملت على تغذية وتنبيه وتحفيز ذلك الخيال بل لأن العزل هناك بعيداً عن أي نوع من أنواع التواصل والارتباط ليس فقط للعائلات والمعتقلين بل امتد ذلك ليشمل وسائل الإعلام على اختلاف مستوياتها وتوجهاتها وانتماءاتها، بل وطال المنظمات الدولية لحقوق الإنسان وتقنين مدروس لزيارات منظمة الصليب الأحمر الدولي.
ألا يبدو معتقل غوانتنامو على ضوء تلك الحقائق عزلاً انفرادياً مركّباً وإنْ التقى فيه السجناء بعضهم بعضا؟ ألا يُعدّ هو النفي من الأرض ذاته الذي أشارت إليه (الآية 33) من سورة المائدة كأقصى مرحلة من مراحل الجزاءات الأربعة من حيث تأثيرها النفسي على الواقعين تحت طائلتها - التي ذكرتها الآية المذكورة في حديثها عن الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا «أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض»؟ واشارتي إلى انها أقصى مرحلة من مراحل الجزاءات الأربعة يكمن في الجانب النفسي الذي يمر به المنفي من الأرض (والنفي من الأرض هنا بمعنى السجن أو العزل عن المحيط والعالم الخارجي بحيث يبدو السجن قبراً ونفياً من ظاهر الأرض الى باطنها عن طريق ذلك العزل) واتفق على ذلك التفسير جملة من العلماء ربما يكون أشهرهم في هذا المجال العلامة الراحل الشيخ أحمد الوائلي.
يشير خالص جلبي في مقاله المنشور في ملف هذا العدد «السراب الأبيض: ثقافة السجن والسجين والسجّان» إلى «ان وظيفة السجن في المجتمعات الاستبدادية هي تعقيم المجتمع من الفكر النقدي».
كان ذلك قبل الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، فالصورة تغيرت تماماً ولم تعد حكراً على المجتمعات الاستبدادية في رؤية الغرب الذي يحصر الاستبداد ضمن دائرة الشرق، بل الشرق الذي تريده من حيث الجغرافية والثقافة والموقف من عربدة جزء منه وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية.
بُعيْد حوادث نيويورك وواشنطن صار لزاماً على الولايات المتحدة أن تتصّدى لمسألة التعقيم تلك قبل أن تتكرر سيناريوهات الانتحارات الفضائية ويطاح بمزيد من الأبراج التي تتحول الى قبور تشبه القبور التي زرعتها أميركا عن طريق سجونها في عدد من الدول عدا عن القبور التي تفرّخها صواريخها الغبية في كل من العراق وأفغانستان.
الملف الذي تخصصه «الوسط» لثقافة «العذاب الإضافي»... ثقافة السجن، يتضمن شهادات موجعة لبشر عبروا النفق السري لتلك الأمكنة عاينوا جلاديهم وحرصوا أيما حرص على أن تلتقي عيونهم بعيون أولئك الجلادين. ونتلمس من خلال تلك الشهادات الفرص الوافرة في هذا العالم لتفريخ استبداد ليس حكراً على الشرق، بل يطال جغرافية مهمة وممتدة من الغرب، وإن استأنفت ذلك الدور ضمن حدودها الخارجية إلا انه لن يكون يوماً ما بمنأى عن قابلية امتداد وجه من وجوهه إلى أوطانها وفي صيغ وصور كثيرة
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 741 - الأربعاء 15 سبتمبر 2004م الموافق 30 رجب 1425هـ