نشأ الاعتماد على القوى العاملة الأجنبية، في مظاهره الحالية، في ظل ظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية مرت بها مجتمعاتنا في الخليج تختلف عن الظرف الراهن. ففي أعقاب الارتفاع المفاجئ لأسعار النفط في منتصف السبعينات، والوفرة المالية الضخمة الناجمة بفعل ذلك، كان خيار اللجوء الى استقدام العمالة الوافدة هو الطريق الذي اتبعته دول المنطقة كافة لسد النقص في الأيدي العاملة المحلية. تم هذا الاستقدام وفق آليات واجراءات كانت وليدة تلك المرحلة وتلك الظروف بالذات. وقد ساهم رخص الأيدي العاملة الوافدة، وخصوصاً الآسيوية، وطبيعة اجراءات ونظم الاستقدام، وأهمها نظام «الكفيل»، الى توفير «حافز» اضافي لزيادة وتائر ومعدلات الطلب على هذه العمالة. وعلى رغم انقضاء أكثر من ثلاثة عقود مرت بها الأوضاع الاقتصادية بفترات مختلفة من النمو والانكماش، وبروز مشكلة البطالة بين المواطنين، فإن الاعتماد على العمالة الوافدة لم يتأثر، ولم تنخفض معدلاته، الأمر الذي يثير التساؤل عن طبيعة هذا «الاعتماد» شبه المطلق على العمالة الأجنبية، والسر في عدم تأثره بالمتغيرات الاقتصادية التي تؤثر على سوق العمل. إنه «لغز» سوق العمل المحير على الدوام!
من الدراسات المهمة التي تناولت هذه الظاهرة، يمكننا الاشارة الى «تقرير التنمية البشرية في دولة البحرين 1998»، الذي لاحظ «أن حجم العمالة الوافدة تتزايد حتى في السنوات التي يكون فيها النمو الاقتصادي سالبا. ان هذه الاتجاهات تعني فيما تعني انخفاضا في الكفاءة الانتاجية، في كفاءة التشغيل على وجه سواء، فإنتاجية العمل أو القيمة المضافة التي غالبا ما تعكس تطورا حقيقيا في التنمية الاقتصادية البشرية ظلت منخفضة أو حتى سالبة خلال معظم سنوات الفترة (1980-1995)».
بدراسة بيانات التعداد العام للسكان والمنشآت للعام 2001 يتضح لنا أن 42 في المئة من العمالة الأجنبية تبقى ست سنوات فأكثر. غالبية العمال يتمتعون بمهارات منخفضة، اذ يعملون في مهن متدنية المهارات (عامل - شغيل) اذ أن معظمهم يعملون في مجال الخدمات الشخصية والبناء. وبتحليل الفئات العمرية للعمالة الأجنبية نجد أن 71 في المئة (192,000) أعمارهم 30 سنة وأكثر.
ان هذا الوضع يدفعنا إلى الافتراض بأن النمط الحالي لاستقدام العمالة الأجنبية «يعيد انتاج نفسه باستمرار»، بل أنه يمتلك «وقاية» و«حصانة» ضد أية تقلبات اقتصادية، ومناعة تامة في مواجهة قرارات واجراءات البحرنة. لقد تحول الاعتماد على العمالة الأجنبية الناجم بفعل ظرف طارئ الى «ادمان» لا يمكن الشفاء منه الا «بالتعافي» بمعالجة جذور المشكلة. وأدى هذا النمط كما رأينا الى أن سوق العمل تتجه الى استقطاب عمالة أجنبية ذات مهارات متدنية، ويبقيها لفترات طويلة، ما يحمل في طياته بذور مشكلات قادمة اضافية أهمها المطالبة المحتملة «بتوطين» هذه العمالة! لا توجد مثل هذه الظاهرة في أي بلد آخر في العالم سوى في دول مجلس التعاون الخليجي.
ان الاسباب ترجع - في اعتقادنا - الى أن رخص الكلفة مع ما يصاحبه من قيود مفروضة على مرونة الحركة في سوق العمل التي تتميز بها العمالة الأجنبية، أدت الى وضع تنافسي غير عادل بين العمالة الأجنبية والعمالة البحرينية. وعلى رغم أهمية عنصر المهارات والكفاءة والمؤهلات التعليمية، فإنها تأتي في المرتبة الثانية بعد عنصر الكلفة في الكثير من الحالات. يجب تسمية الاشياء بمسمياتها الصحيحة، فالمهارة مطلوبة للأعمال الماهرة، وطبيعة بيئة العمل وتنظيمها بدورها اما أن تنمي المهارات أو تحطمها! الوضع الطبيعي هو أن يتم توفير الشروط الاساسية لعمل منتج يساهم في خلق قيمة مضافة، وهذا سيخلق بدوره انسانا منتجا، واخلاقيات عمل بناءة.
لنتمعن في ظاهرة ارتفاع العمالة البحرينية في الشركات المساهمة الكبرى في سوق العمل، ونحاول أن نربطها بالشكوى التقليدية من «عدم كفاءة العمالة البحرينية». ليس السبب كما نسمع عادة ان الشركات والمؤسسات الصغيرة غير قادرة على توفير ظروف عمل مجزية للعمالة البحرينية، بل أن خيارات استقدام العمالة الأجنبية المتاحة، وظروف التنافس غير العادلة بين العمالة الأجنبية والبحرينية للاسباب المذكورة أعلاه هي العائق الرئيسي امام خلق الوظائف الجيدة في هذا القطاع المهم، الذي نشأ وتطور منذ البداية بالاعتماد على العمالة الأجنبية بالذات. ان ما هو غير طبيعي، هو التفاوت «الاصطناعي» لكلفة العمل، الناجم بفعل الدعم الحكومي غير المباشر للخدمات الاساسية، والتي تخفض من مقدار الكلفة الفعلية للعمالة الأجنبية، وامكان استغلال العامل الأجنبي لتوفير دخل اضافي عبر ظاهرة التستر التجاري (تأجير السجلات) وغيرها من الظواهر المشينة في سوق العمل المرتكزة على نظام «الكفالة».
لا بد من التشخيص الدقيق الواضح والصريح لجذور المشكلة اذا رغبنا في حلول طويلة الأمد وليس مسكنات مؤقتة. ما يستدعي القلق أن منظومة كاملة من القيم السلبية مثل الاتكالية، واستصغار استغلال الغير، وتدني مستوى الوعي بالمسئولية تجاه المجتمع وغيرها، قد تحكم قبضتها في نهاية المطاف اذا ما استمر الوضع الراهن على ما هو عليه، والخسارة النهائية ستكون من نصيب الجميع بلا استثناء.
ان استقدام العمالة الأجنبية يجب أن يخضع لاعتبارات اقتصادية بحتة، وفق توجه يشجع وينمي تطور انتاجية العمل، وفي ظروف عادلة وانسانية، وأن يكون هذا الاستقدام ضمن اطار مكمل لدور العمالة البحرينية وليس بديلاً عنها، وضمن بيئة من الحقوق والمعايير في العمل تجعلنا نرفع رأسنا عاليا باعتزاز امام المجتمع الدولي. لا نرغب في أن نهرب من المشكلات ومواجهتها أو تأجيلها، فالبحرين تمتلك أعظم ثروة غير قابلة للنضوب والاستنفاد، هي سلاحها المجرب والفعال في عالم اليوم، انها ثروتها البشرية الغنية بالامكانات والطاقات الخلاقة من عمال وأصحاب أعمال الذين برهنوا على كفاءتهم في أكثر من مناسبة. وتبقى مسألة توفير الشروط والظروف الصحيحة لنمو وازدهار هذه الثروة البشرية التحدي المستمر لليوم والغد
العدد 740 - الثلثاء 14 سبتمبر 2004م الموافق 29 رجب 1425هـ