من قال إن لفلسطين قصة واحدة، ومن قال إن مدنها تحمل وجهاً واحداً، وان مآساتها ذات بعد واحد... ومن يا ترى يمكن أن يحكي كل الحكايات العتيقة وينثر كل أوراق الزيتون المخضبة بدماء المزارعين، من يمكنه أن ينبش جراح التاريخ ويعيد عرض صور لم تغب من ذاكرة جدران المنازل والأزقة والحواري والضياع المليء بالزيتون والبرتقال.
ثم لماذا غيب التاريخ كل تلك الصور الجميلة، ولماذا يقسو على ذكريات وتراث يبدو غائباً مضيعاً وسط آهات هذا الشعب التي لا تنتهي، وفي خضم صراعه المرير مع عدو ينشب أنيابه بوحشية لا مثيل لها في الجسد الفلسطيني الذي لا يشيخ.
لكن اتراها تشيخ الهموم وتعجز، أتراها تكبر المأساة وتهرم، أما انها تظل شابة متوقدة تملأها الحياة، والحياة هذه المرة تنزفها دماً وتملأها جراحاً لا تداويها السنون.
ما عرفناها فلسطين تراثاً، ما ألفناها أراض خضراء، ففلسطين تعني الدم والقتل والنزف الذي لا يتوقف، واليوم وبعد ما 56 عاماً يأتي يسري نصر الله ليحاصرنا بصور تعبث في الذاكرة وتعيث فيها ألماً، أتراه نصر الله يعني ما يفعله حين يعرض المأساة يوماً بيوم ساعة بساعة، حين يواجهنا باتهامات ما عاد الهروب منها ممكناً ولا عاد طيها في صفحات التاريخ مقبولاً. نعم يعرضها نصر الله في فيلمه «باب الشمس» من خلال قصة شاب وفتاة، وان كانت البداية صبي وصبية، وهي قصة نعيشها حتى آخر المطاف، لنكتشف من خلالها واقع المعاناة وحقيقة الزيف العربي والتآمر المشترك الذي تنتكس الرؤوس له خجلاً وان كانت أجيال سابقة قد اقترفته.
الحكاية تبدأ منذ بدايات الأربعينات ومنذ عز فلسطين الذي ولى ولعله يعود قريباً، بطلها يونس وبطلتها ناهيلا، صغيران يجدان أنفسهما أمام معترك الحياة، وذلك حين يقرر الشيخ أبو يونس تزويج فتاه الصغير الذي تتبدى عليه أول ملامح الرجولة والشباب، لطفلة لم تتضح معالم أنوثتها بعد، إذ يقع اختيار الشيخ على واحدة من الأسر الصغيرة لأرملة وبناتها الثلاث، وبالأحرى صغراهن التي ماتزال طفلة قد لا تتجاوز عامها الحادي عشر. هكذا تبدأ الحكاية بتفاصيل بسيطة عادية سرعان ما تسطو عليها السياسة لنجد أنفسنا أمام ملحمة يخط سطورها فتى وفتاة يكبران مع كبر المأساة، وتنضج سنواتهما بنضوج ثمرة التآمر الانجليزي ضد الأرض وأبنائها.
حكاية ناهيلا ويونس ليست سوى واحدة من عشرات الحكايات (وان كانت هي الأساس) التي ينثرها نصر الله أمامنا في فيلمه الرائع (باب الشمس) الذي يبدأ عرضه قريباً في سينما الدانة، والفيلم انتاج فرنسي وهو مأخوذ من رواية الكاتب اللبناني الياس الخوري التي تحمل الاسم نفسه والتي تعبر كما يتضح من الفيلم عن نظرة الكاتب الخاصة لكل ما جرى منذ نهاية الاربعينات حتى اليوم، وهي النظرة التي يشاركه اياها نصر الله وينقلها عبر فيلمه المميز هذا الذي تطول ساعاته حتى الخمس.
الفيلم يستحق المشاهدة ويعرض على جزءين طول كل منهما يصل الى حوالي الساعتين والنصف، وهو من تمثيل ريم تركي، ندى عمران، هيام عباس، محتسب عارف، وآخرون
إقرأ أيضا لـ "منصورة عبد الأمير"العدد 740 - الثلثاء 14 سبتمبر 2004م الموافق 29 رجب 1425هـ