مازلنا نبحث جاهدين عن طاقة أمل، تخرجنا من هذا الناخ الخائن، الذين يلف كل شيء، ويغرق كل انسان بالاحباط واليأس، بعد أن عامت المنطقة كلها فوق شلالات الدم النازف، من دارفور في السودان حتى الموصل في العراق، مروراً بفلسطين الذبيحة.
اليوم نعود من جديد إلى حديث الإصلاح المطروح في الساحة بقوة، نعود إليه بأمل أن يتحول الحديث الصاخب عنه، إلى فعل نافذ، على رغم كل مرارات التجارب السابقة التي تعودنا معها أن نسمع ضجيجا صاخبا، عن اشتداد الأزمة - أي أزمة - ثم سرعان ما يتبخر كل شيء فور أن يسود بعض الهدوء.
وأظن أن الحديث عن الإصلاح والتطوير الديمقراطي في بلادنا، لن يهدأ بسهولة هذه المرة، نقد سبق وهدأ كثيراً بل تجمد وتحجر حتى حسبناه ميتا، أو نسيا منسياً، بعد أن التهمته النظم الحاكمة في بطونها الواسعة ثم ألقته حيث أرادت.
الأمر هذه المرة مختلف، ليس فقط لأننا كشعوب نصرّ على استعادة حريتنا في الاختيار والمشاركة، في القول والفعل، بعيداً عن الهيمنة الحكومية، وتحرراً من السيطرة البطريركية «الأبوية» للحاكم الكلاسيكي القديم، ولكن لأن عنصر الضغط الأجنبي، وخصوصاً الأميركي لايزال - حتى اللحظة - يدمر رؤوس الحكام، ملحاً على ضرورة الإصلاح والتطوير وفق رؤيته وطبقا لمصالحه.
ويجب ألا يخطئ أحد، في قراءة الرسالة الصادرة أخيراً عن مجلس الأمن الدولي، والمتمثلة في القرار رقم 1559. في 3 سبتمبر/ أيلول 2004 الخاص بالعلاقات السورية اللبنانية، وهو قرار صدر برغبة وصوغ مشترك وضغط ثنائي على المجلس الدولي من جانب أميركا وفرنسا، في واحدة من المرات القليلة، التي اتفقتا فيها خلال السنوات الثلاث الأخيرة على الأقل.
والواضح أن لهذا القرار شقين مترابطين، أولهما يتحدث عن ضرورة انسحاب كل «القوات الأجنبية» من لبنان وتفكيك الميليشيات المسلحة ونزع أسلحتها، والهدف اجبار سورية على الخروج من لبنان، الذي دخلته العام 1976 بغطاء عربي رسخه اتفاق الطائف الشهير، ولأن ذلك يخدم «إسرائيل» بالدرجة الأولى فإن الجماعة الوطنية والقومية تقف ضده لأسباب واضحة، تستدعي حديثاً آخر.
أما الشق الثاني الذي يعنينا في حديث اليوم، فهو المتعلق برفض قرار مجلس الأمن، لتعديل المادة 49 من الدستور اللبناني، من أجل تمديد مدة رئاسة الرئيس اللبناني اميل لحود لثلاث سنوات أخرى، وهو التعديل الذي أقره البرلمان اللبناني فعلاً بعد ساعات من صدور قرار مجلس الأمن.
وهذه رسالة تحذير قوية وأولية، من مجلس الأمن الدولي، أو قل من مجلس الأمن الأميركي ان شئت الدقة، لكل من يهمه الأمر في هذه المنطقة العربية، فإن كنتم تحتجون على أن أميركا أو غيرها من الدول الغربية، تتدخل في أدق الشئون الداخلية، وتنتهك سيادة الدول، وتتحدى القوانين الدولية وتكسر غطاء الشرعية، فها هي أميركا وحليفاتها تذهب إلى مجلس الأمن وإلى الأمم المتحدة، راعية الشرعية الدولية، لتنتزع بكل قوة ما تريده من قرارات ومبادئ، تسمح بالتدخل «الدولي والشرعي هذه المرة» في الشئون الداخلية، باسم الإصلاح والدفاع عن الديمقراطية وحماية الدستور!
والواضح أن القرار الدولي 1559 الخاص بلبنان وسورية هذا، يؤرخ لمرحلة جديدة في العلاقات الدولية، وفي دور منظمة - الأمم المتحدة ومجلس أمنها، وهو دور كما نرى أصبح للأسف سلاحاً في أيدى الجبابرة الأميركيين والأوروبيين، بدلا من أن يكون مظلة حماية ومنبر دفاع عن مصالح الشعوب الفقيرة والدول الصغيرة وفق عدالة القانون الدولي.
وها نحن في مواجهة ثلاثة قرارات «دولية شرعية» صادرة عن مجلس الأمن، تكرس الهيمنة الأميركية خصوصاً، تحت شعارات «إنسانية وديمقراطية وإصلاحية براقة»، أولها يكرس الاحتلال الأميركي للعراق، وقد اسبغ عليه الشرعية الدولية بحجة اسقاط الطاغية ومكافحة الإرهاب، وثانيها يمهد لتدخل دولي، سياسي حتى الآن، وغداً عسكري، في دارفور، بدواعٍ إنسانية، وثالثها وأحدثها يؤذن بتدخل مباشر في سورية ولبنان، بزعم الدفاع عن الديمقراطية والحرية والاستقرار.
وعلى رغم أننا من حيث المبدأ، ضد الطغيان والإرهاب في العراق وغيره، وضد استمرار المأساة الإنسانية في دارفور وغيرها، ومع الديمقراطية والحرية في كل مكان، فإننا نطالب مجلس الأمن وأميركا والحلفاء الغربيين «الديمقراطيين» بتطبيق المعايير نفسها على فلسطين، التي تنزف دما كل لخطة، بسلاح الإرهاب والطغيان الإسرائيلي، والتي تعاني من مأساة إنسانية لا تقل عن دارفور، والتي تنتهك فيها الحريات بأسوأ مما يجري في أي مكان في العالم، تحت رعاية واشنطن!
لكن واشنطن ترى أن «إسرائيل» (دولة ديمقراطية) يحق لها أن ترتكب الجرائم ضد الإنسانية من دون عقاب، وأن السفاح شارون «رجل سلام» يحق له ممارسة الإرهاب من دون إدانة، إذن يبقى علينا نحن أن ندفع الثمن ونتحمل الوزر.
ويقيني أننا فعلاً نتحمل اوزارا كثيرة، وأهم هذه الأوزار، أوضاع التخلف والفقر والنساء والاستبداد، التي تعاني منها مجتمعاتنا، والتي دفعت بنا إلى مؤخرة مسيرة التطور الحديث، والتي أصبحت مبررا جاهزا أمام الدول الكبرى للتدخل في شئوننا الداخلية، بحجة إصلاح من أفسدناه بأيدينا، وبذريعة مساندة التطور الديمقراطي ومشروعاته المطروحة.
والحقيقة أننا نعايش هذ الأيام صراعاً على الإصلاح، تشابكت خطوطه واختلطت مفاهيمه وأهدافه ووسائله، حتى غامت الروية بعد أن تشابه البقر علينا؛ وصار صراخ الصوت أعلى من حكمة العقل، مثلما التبست حتى الوطنية بالخيانة والاستقلال بالاستعمار... إلخ!
والحاصل أننا أمام نوعين من دعوات الإصلاح ومشروعاته، وإن كنا نسمع حتى الآن ضجيجا ولا نرى طحناً.
دعوات إصلاح ومشروعات تنبع من الداخل، وتتبناها قوى وطنية كثيرة، تعبر عن مصالح سياسية واقتصادية واجتماعية، ترغب في المشاركة واقتسام السلطة والثروة، على انقاض نظم فسدت واستبدت حتى هوت أو كادت.
وأما منا نماذج كثيرة ترتعش بالحركة وتنتفض بالحيوية والشجاعة، تمتد من المغرب والجزائر حتى البحرين، ويأتي النموذج المصري ليبرز تبلور المواقف في الفترة الأخيرة، ممثلة في موقف تجمع الأحزاب المعارضة الرئيسية، وخصوصاً الوفد والناصري والتجمع، حول مشروع وفاق إصلاحي وطني ديمقراطي، في مواجهة موقف الحزب الوطني الحاكم الذي يطرح مشروعاً آخر، الأول يريد إصلاحاً شاملا وفوريا، والثاني يرى التدرج «المتهم بالتكاسل»، الأول يقول إن التدهور لم يعد يحتمل التدرج والتسويف والتكاسل، والثاني يتعلل بالتدرج حماية لاستقرار المجتمع وحفظ توازنه.
وعلى رغم أن المنطق يقول، لنترك الصراع بين المشروعين، يمضي إلى نهايته ليحسم الأمر لأيهما، إلا أن تجارب الماضي، تحذرنا من «عقلية المناورة»، وليس فقط «عقلية المؤامرة»، التي تطرح الإصلاح لتمرير مناخ الأزمة المحتكمة، ثم تلتف عليه فتخنقه حتى الموت بالسكتة المفاجئة، وكم عانينا من اسفكسيا الخنق والاختناق؟!
أما مشروعات الإصلاح الأخرى، فهي تلك التي يمطرها الغرب علينا بغزارة، سواء جاءت من أوروبا، أو جاءت من أميركا، فهي ضاغطة قاسية مصرة على إحداث تغييرات واسعة في مجتمعات تراها ترهلت وفسدت رؤوسها واستبدت نظمها، حتى انعكس ذلك سلبا على استقرار الغرب ورفاهيته وأمنه.
وفي المقدمة يأتي مشروع الإصلاح الذي توافقت عليه أخيراً أميركا وأوروبا، والمبني على مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي بدأت واشنطن بطرحه، ثم تبلور في القمم الثلاث الشهيرة خلال شهر يونيو/ حزيران 2004، قمة الدول الصناعية الثماني في جورجيا الأميركية، ثم قمة التحالف الأوروبي الأميركي في ايرلندا، وأخيراً قمة حلف الأطلنطي في اسطنبول التركية... والخلاصة أن الغرب جاء وحازم هذه المرة في إصلاح أحوال الذين أهملوا إصلاح أحوالهم، حتى بقوة التدخل المباشر.
ولقد جاء قرار مجلس الأمن الأخير، الخاص بسورية ولبنان، ليعطي هذا التدخل الغربي في شئوننا غطاء دوليا لا يمكن تجاهله أو تحديه للأبد، وأظن أن هذا هو المغزى الأهم والتحول الأخطر، الذي يجب على حكوماتنا أن تفهمه وتقيه من الحدث والحديث عن الإصلاح الديمقراطي.
وبصرف النظر عن رفضنا لابتزاز سورية والضغط على لبنان، ومعارضتنا «للمناورات والمؤامرات» الأميركية والأوروبية التي تستهدف اهدار مصالحنا ومبادئنا، وتسعى لعودة الاستعمار القديم بثياب جديدة، إلا أن الأهم والأخطر أن نفهم المغزى ونعي حقيقة التحول الدولي الجديد، باستغلال مظلة الأمم المتحدة وشرعية مجلس الأمن، لفرض الإصلاح علينا بعد أن تقاعسنا طويلا في تطبيقه، وهو أمر طالما حذرنا نظمنا الحاكمة من مخاطره... لكن من يقرأ ومن يسمع!
والخلاصة... أن هذه فيما نعتقد الرسالة الأخيرة في ربع الساعة الأخيرة، فما لم تسارع حكوماتنا «الرشيدة» بالتوافق والاتفاق مع مشروعات الإصلاح الديمقراطي الداخلية الوطنية، وتوقف مناوراتها وتسويفاتها وهروبها من هذا الاستحقاق الشعبي الأصيل، فإنها ستعاني الأمرين من مشروعات الإصلاح الأجنبية المفروضة.
بالأمس عايشنا قرارا لمجلس الأمن الدولي، يناقض قرار برلمان عربي منتخب في دولة ديمقراطية، أو شبه ديمقراطية، وغدا سنعايش قرارات أخرى لمجلس الأمن نفسه، تسقط شرعية حكومات وبرلمانات، وتهدر مناصب حكام وحكومات، وتفرض نظماً ومشروعات جاهزة آتية من أدراج بعيدة في عواصم بعيدة.ولا عذر ساعتئذٍ للباكين على الاستقلال الوطني، ولا عزاء للنائحين على الإصلاح الديمقراطي.... بعد أن فرطنا وبعنا وتهربنا؛ ثم استسلمنا للذبح الشرعي!
خير الكلام
يقول طرفة بن العبد:
فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي
فدعني أبادرها بما ملكت يدي
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 740 - الثلثاء 14 سبتمبر 2004م الموافق 29 رجب 1425هـ