يروى أن معاوية بن أبي سفيان كان يجلس إلى مائدة ومن بين الحاضرين أعرابي وبينهما طبق ثريد عليه كثير من الدسم، فقام الأعرابي بفتح ثغرة لكي ينزل الدسم إلى ناحيته، فلاحظه معاوية فداعبه قائلا: «أخرقتها لتغرق أهلها؟»، فلم يزد الأعرابي أن رد عليه بالمنطق القرآني نفسه: بل «سقناه إلى بلدٍ ميتٍ».
واليوم الخارقون من أجل إغراق أهل السفينة الواحدة كثر، وليس أقلهم شأناً المرتشون الذين هم كالآفة التي تسري في الجسد البحريني، وخصوصاً بين أولئك الذين تقع تحت أيديهم «مفاتيح» الخدمات العامة، والذين يعلمون أنه من دون أن «يُدهن سيرهم» فإن مصالح الخلق ستتعطل، فتصبح الرشوة واجبة على المُراجع.
ففي وزارة خدمية ضخمة كوزارة الكهرباء والماء، هناك بعض الجهات التي إذا لم يتم «تدسيم» الموظف فيها، فإن تقاريره ترفع بعدم استكمال التوصيلات، وعدم التزام صاحب المبنى بالمواصفات، وما أن تلوح وريقات العشرين ديناراً في الجو، حتى تنقلب الاعتراضات إلى «توصيات» يحبذ أن ينفذها المالك... وإن لم يفعل فلا جُناح عليه، فقد وصل المعلوم وتم تسلُّم المقسوم.
يستهون أناس المبالغ المدفوعة لتسيير الأمور، وخصوصاً أنها لموظفين صغار، فما هي إلا دعم للرواتب المتدنية إزاء الغلاء الماحق لأي راتب مهما كبر... فهناك مسئولون في وزارات متعددة أعلى بكثير من هؤلاء الموظفين، يتقاضون رُشىً باهظة تصل إلى عشرات الآلاف وربما المئات، فالرشوة تعظم بعظم المنصب والمشروع.
الفريقان (الكبير والصغير) يعدان من الآفات المعروفة والمشهورة والتي لها من القصص المضحكة المبكية، لم يعودا يخشيان أو يخجلان من توارد الأحاديث عنهما، بالاسم وبالرقم وبالمشروع، وبعدد رزم «الأنواط» إذ لا يتقاضون إلا نقداً وعداً، مستثمرين الجلبة العالية التي لا تحرك سيفاً لاستئصال الفساد بل تمنح المرتشي (الكبير والصغير) المزيد من الوقت لتعظيم ثرواته، والإساءة إلى الوطن بقدر المستطاع لتحقيق مصالح شخصية... فمن يجفف «الدسم» الشخصي حتى يسمن الوطن؟
إقرأ أيضا لـ "غسان الشهابي"العدد 739 - الإثنين 13 سبتمبر 2004م الموافق 28 رجب 1425هـ