في ربيع العام 2000 كلف الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان، الأخضر الإبراهيمي بكتابة تقرير عن تحسين تدخل الأمم المتحدة في ظروف الحفاظ على السلام في مناطق العالم المأزومة، ولم يتخلف الإبراهيمي في وضع النقاط على الحروف في تقريره، إذ حدد ثلاث قضايا لتدخل الأمم المتحدة بنجاح في مناطق الخطر، الأولى ألا تقبل الأمم المتحدة، في مهماتها الموكلة إليها، الغموض والضبابية في سلطتها، والثانية أن الأمم المتحدة لا تعمل بشكل (موضوعي) لاختيار العاملين في هذه المهمات، فالعاملون في الأمم المتحدة يؤجرون ويكلفون ويترقون على أساس العلاقات الشخصية والولاء السياسي بدلاً من الخبرة والقدرة، وبسبب أولاً وثانياً فإن عدداً صغيراً من أهل الخبرة يعطون مهمات كبيرة وحملاً ثقيلاً للتغطية على نقص الآخرين وتقاعسهم.
وقرر الإبراهيمي في تقريره أن هذه القضايا الثلاث إن لم يوجد لها حل جذري فستجعل من احتمال إصلاح أعمال الأمم المتحدة «مهمة مستحيلة»، وخصوصاً في مناطق الخطر.
التقرير قوبل بترحاب على المستوى الإعلامي، ولكنه سرعان ما نسي. وبعد ثلاث سنوات تقريباً فُجر مقر الأمم المتحدة في بغداد عن طريق انتحاري، وقتل ثلاثة وعشرون عاملاً من موظفي الأمم المتحدة، بما فيهم الممثل المقيم سيرجيو ديميللو، وأكد التحقيق الذي تلا هذا التفجير أسوأ توقعات تقرير الإبراهيمي.
بعد سقوط صدام حسين في أبريل/ نيسان من العام 2003 توصلت الكثير من القوى السياسية الدولية إلى أن نوعاً من أنواع النشاط للأمم المتحدة يجب أن يكون حاضراً في بغداد. فالأمم المتحدة كانت راغبة في تأكيد حضورها هناك، وبالنسبة إلى الولايات المتحدة فان الحضور الدولي يعطي أعمالها شيئاً من التغطية، ويظهر أنها ليست اللاعب الوحيد على الساحة العراقية. وبالنسبة إلى القوى الدولية الأخرى، وتحقيقاً للتوازن مع الولايات المتحدة بعد الجفوة التي خلفتها المعارضة الشديدة منها للحرب ضد العراق، لم تجد حرجاً في دعم وجود للأمم المتحدة على الساحة العراقية.
وعلى هذا الأساس فإن مجلس الأمن الدولي تبنى القرار رقم 1483 في 22 مايو/أيار 2003، وطلب القرار من الأمين العام كوفي عنان أن يعين مندوباً خاصاً لتمثيله في بغداد ومتابعة أعمال الأمم المتحدة، وأعطيت المندوبية ثلاث مهمات، أولها تنسيق أعمال الأمم المتحدة (النشاطات والأعمال لم تكن محددة) وثانيها توجيه المساعدات الإنسانية بالتعاون مع (السلطة القائمة) وثالثها التعاون مع (السلطة) بكثافة لإقامة مؤسسات وطنية والتمهيد لتكوين إدارة جديدة في العراق، ولم تحدّد كالعادة مدى «الكثافة» المطلوبة.
ما دام عمل الأمم المتحدة محصوراً في العمل الإنساني، فإنها لن تكون «هدفاً»، ولكن بمجرد دخولها الى الشبكة المعقدة للسياسة العراقية، فقد أصبحت طرفاً في الخلاف، ومكاناً للاستهداف، من قبل أولئك الذين يرفضون استقرار الأمور بعد الاحتلال الأميركي.
بعد تمرير القرار بأيام قام الأمين العام وبسرعة غير معهودة بإرسال ممثله الخاص السيد دوميللو إلى العراق، بعد ذلك بدأت كل الإدارات التابعة للأمم المتحدة ترسل موظفيها بكثافة في سباق ملحوظ، وكان القرار ألا يتعدى عدد (كل) الموظفين الدوليين خمسة وسبعين في أي وقت في العراق، ولكن الرقم زاد على ثلاث مئة وخمسين، بسبب العلاقات الشخصية والقربى السياسية، التي حذر منها تقرير الإبراهيمي.
لم يكن كوفي عنان ولا نائبه في لجنة العراق لويس فرشتي، النائب السابق لوزير الدفاع الكندي، مدركين للمخاطرة، بعد أن تدخلت الأمم المتحدة في المسيرة السياسية.
في 19 أغسطس/ آب العام 2003 (أي قبل سنة تقريباً) سمع العالم بالمأساة، فبعد ظهر ذلك اليوم فجر انتحاري نفسه في المبنى الذي تحتله قيادة مؤسسات الأمم المتحدة في بغداد، وقتل دوميللو وعدد آخر من موظفيه، حتى الأمم المتحدة لم تكن تعرف على وجه الدقة هويتهم.
وبمجرد خروج الأمم المتحدة من بغداد أعيدت الأسئلة الحرجة، هل كان يجب أن تكون الأمم المتحدة أصلاً هناك؟ وهل توقع هذا الهجوم المميت من أي من مؤسساتها؟ وهل أخذت الاحتياطات الأمنية اللازمة؟ ومن هو المسئول في الأمم المتحدة، وعن ماذا؟
لقد كان تفجير مقر الأمم المتحدة في بغداد أسوأ كارثة تعرضت لها المؤسسة الدولية منذ نشأتها العام 1945، ومن أجل معرفة نقاط الضعف التي وقعت فيها في بغداد، عين الأمين العام رئيس فنلندا السابق مارتي اتساري لرئاسة لجنة التحقيق، وفي أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي ظهر تقرير اتساري، ولم يدن التقرير النظام الأمني المتبع في الأمم المتحدة، بل أدان طريقة كوفي عنان في إدارة العمل الأممي، إلى جانب عدم وجود شخصيات ذات كفاءة لمتابعة العمل الدقيق المنوط بفريق الأمم المتحدة، وكذلك عدم التقدير الحقيقي للتهديدات الأمنية المتوقعة.
كانت الأمم المتحدة تُنتقد من خارجها، فأصبح النقد من الداخل، كما فعل اتساري وآخرون، إلى درجة أن الأمين العام عيّن شخصية أخرى لمتابعة التحقيق في حوادث بغداد التي راح ضحيتها دوميللو!
حوادث بغداد جعلت المؤسسة العالمية تقترب من فقد الثقة فيها، لا من حيث التوجه العام في رسم السياسات، ولكن حتى في تطبيقها، وحتى الدولة الأكبر المؤثرة، وهي الولايات المتحدة، يتنافس الآن المرشحان الجمهوري والديمقراطي فيها، في دق إسفين في نعش هذه المؤسسة الدولية.
لقد استخدمت مؤسسات الأمم المتحدة في السنوات الأخيرة في بعض وجوهها كحصان طروادة، فهل تشهد السنوات المقبلة إصلاحاً جذرياً لهذه المؤسسة الدولية، أم يجري تجاهلها كلياً، لتلحق بسابقتها (عصبة الأمم)؟
إن توحدت أو تقاربت سياسات الولايات المتحدة وأوروبا في هذا السياق، فإن العشرين سنة المقبلة سترينا عالماً آخر غير الذي عرفناه، ودعونا نتذكر أن البدء كان في بغداد
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 739 - الإثنين 13 سبتمبر 2004م الموافق 28 رجب 1425هـ