مساء الخميس الماضي عشت تجربتين مختلفتين من حيث الاتجاه والأجواء والآفاق، بحضور حفلين، أحدهما في جمعية سياسية لها جذورها، والآخر في حسينية عريقة بأحد أحياء العاصمة، على بعد الشُقّة جمعتهما لغة متقاربة: سيادة لغة التاريخ والغناء للوطن والتغني بأمجاد الشهداء.
فبعد ختام مسرحية «القاضي وطباخه أبوالشمقمق» عند التاسعة وخمس وأربعين دقيقة في «جمعية العمل الديمقراطي»، استأذنت للمغادرة قبل اختتام الحفل، ليسعني تلبية الدعوة الأخرى في ذلك المساء. وتوجّهت ناحية المنامة، إذ كانت حسينية القصاب تقيم حفلاً تأبينياً للشهيد محمد باقر الحكيم بحضور بعض أفراد أسرته. كان الخطيب قد انتصف في خطبته. وكان يتحدّث عن الشهادة وميراث الشهداء. وتوقّف كثيراً مذكّراً ومستعرضاً تاريخ المرجعية الدينية التي تمثّل ضمير العراق، والتي كانت تتسامى على الطائفية عبر تاريخها الطويل لتحمل على عاتقها مسئولية حفظ العراق وتشكيل هويته.
كان الخطيب من عائلة الحكيم، العائلة العراقية الشهيرة، وتلميذ الحوزة الدينية العارف بشئون وشجون العراق، يقول إن المرجعية ليست حزباً سياسياً، فالسياسيون يمكنهم أن يساوموا حتى على هوية الوطن، ومستعدون لبيعه من أجل كرسيٍّ يجلسون عليه، ولكن المرجعية هي التي كانت تمثّل «ضمير العراق». من أجل ذلك تحظى بثقة والتفاف العراقيين من جميع الطوائف حولها.
هذه المرجعية هي التي صانت هوية العراق عبر التاريخ، وهي التي حفظت عروبته وواجهت سياسة «التتريك» أيام الاحتلال العثماني للعراق طوال عدة قرون فأفشلتها. وهي التي حرّرت العراق من الاحتلال البريطاني. ثورة العشرين التي يستَشهد بها هذه الأيام، كانت بقرارٍ من المرجعية، فبعد أن صبرت على الاحتلال البريطاني تدافعه سنين، هي التي أصدرت في الأخير قرار مقاومته فأشعلت الأرض تحت قدميه، حتى قلبت المعادلة في أرض الرافدين. فمثل هذه المرجعية هي فوق اللعبة السياسية الآنية، لأنها تفكّر بمنطلقٍ أسمى من لغة المصالح والفئويات والعصبيات العمياء.
ضمير العراق
دارسٌ كبير للتاريخ، مثل الكاتب الكويتي عبدالله فهد النفيسي، المعروف للجمهور العربي، وخصوصاً بعد ظهوره في السنوات الأخيرة على «الجزيرة»، درس العراق وتعمّق في تاريخه، وقدّم بحثه في كتابٍ بعنوان: «دور الشيعة في تطور العراق السياسي الحديث»... كان يقول معلّقاً على حوادث العام 1917: «من يعرف شيئاً عن الشيعة يدرك فوراً ان المجتهد الأكبر لا يمكن أن يكون قد بعث برسالةٍ إلى السلطة يتوسل إليها العفو والصفح عن النجف...». والنفيسي رجلٌ غير متهّمٍ في صدقه أو دينه وموضوعيته، فهذه كتبه الرزينة تشهد على نزاهته العلمية وحرصه على ما يكتب.
أقارن بين ما يكتبه هذا الرجل العارف بالتاريخ، وبين من يخوضون في تاريخٍ لا يعرفونه، فيملأون أعمدتهم بالأقوال المرسلة على عواهنها، دون نزاهةٍ علميةٍ ولا تدقيق. ولأن الأجنبي وتوابعه يعرف جيداً ما تمثّله هذه المرجعيات من ثقل، لذلك بادرت يد الاثم إلى اغتيال الحكيم في النجف الاشرف، وهو خارجٌ من مصلاّه صائماً في شهر حرام، بأرض حرام، لأنهم يعلمون انه الرجل الذي كان يمكن أن يقول «لا» فيغيّر المعادلة.
هذا والعراقيون مختلفون في سبل مواجهة الاحتلال، ولا يقتصر الخلاف على مجموعة عرقية أو مذهبية معينة حتى تهال عليها كل التهم والافتراءات. فليست هذه الجهة هي من جلب الاميركان، ولا هي بالراغبة في بقائهم يوماً واحداً في أرض المقدسات. ولو امتلك هؤلاء «المحللون» شجاعة أدبية لصارحونا بأسماء من قدّم للأميركيين القواعد والتسهيلات اللوجستية، براً وبحراً وجواً، لاغتيال العراق، قبل أن يقذفوا بالتهم على الأطراف العراقية التي شبعت من فنون الظلم والبطش والهوان على يد صدام حسين.
ومهما اختلفنا على ما يجري في العراق، فاننا لن نختلف عن وصفه بالاحتلال، قوة جبارة طائشة، جاءت لتحقيق مصالحها الاستراتيجية الكبرى، ولم تكن هناك قوة محلية أو اقليمية، بامكانها الوقوف في وجهها. حتى الرئيس المهيب صدام حسين، فارس الامة العربية، فرّ إلى جحره مختفياً سبعة أشهر كاملة، حتى وشى به أحد أعوانه ودلّهم عليه وهو رابضٌ بين نثيله ومعتلفه، يأكل الموز ويقتات على حبات البرتقال ويأكل الحلويات المستوردة
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 739 - الإثنين 13 سبتمبر 2004م الموافق 28 رجب 1425هـ