العدد 739 - الإثنين 13 سبتمبر 2004م الموافق 28 رجب 1425هـ

اندفاعة قوية ثم مراوحة مع بعض التراجعات

تجربة المغرب في الإصلاح والمصالحة

عبدالنبي العكري comments [at] alwasatnews.com

ناشط حقوقي

اتيحت لي زيارة المغرب خلال الفترة ما بين 23 يوليو/ حزيران 2004 حتى 12 أغسطس/ آب 2004. وشاركت الى جانب أخوة آخرين في المنتدى الاجتماعي المغربي والذي انعقد خلال الفترة 26 - 27 يوليو 2004 الى جانب فعاليات أخرى مثل ورشة المنتدى الأوروبي العربي وورشة العدالة الانتقالية. وقد تنقلت بين بعض المدن مثل الرباط والمحمدية والدار البيضاء وطنجة وأصيلة. كما اتاحت لي هذه الزيارة وخصوصا من خلال المنتدى الاجتماعي المغربي والفعاليات الأخرى مثل مهرجان أصيلة وندواته الالتقاء مع مغاربة من مختلف المناطق وأصحاب مهن وانتماءات سياسية ومواقع اجتماعية مختلفة. وقد صادف أثناء الزيارة الاحتفال بالذكرى الخامسة لتولي الملك محمد السادس الحكم في 30 يوليو 1999، إذ كرّست الصحف والمجلات المغربية أعداداً خاصة لهذه المناسبة وتقييم خمس سنوات من العهد الجديد والذي طرح في مقدمة اولوياته الإصلاح والمصالحة.

ولو أخذنا بعض ماورد في الصحف كمؤشر على تقييمها لعهد محمد السادس نجد ما يأتي:

- «الاتحاد الاشتراكي»: بمناسبة الذكرى الخامسة لعيد العرش... مكتسبات ورهانات في حقول المصالحة والإصلاح والتقدم.

- «الأخبار»: الأخبار تضع أمامكم حصيلة خمس سنوات في حكم محمد السادس.

- «الأيام»: الملك ليس مقدّساً.

- «الصحيفة»: خمس سنوات من حكم الغياب ما تبقى من الحسن الثاني «فساد العهد الجديد».

يعكس الاحتفال بيوم العرش وطأة الدولة المخزنية التي ورثها الملك محمد السادس من أبيه الذي حكم البلاد أربعين عاماً، وأجداده في دولة العلويين التي تحكم البلاد من أكثر من ثلاثمئة عام. وجرى الاحتفال الضخم في الرباط ودعي إليه المئات من كبار المسئولين في الدولة من مدنيين وعسكريين وأعضاء مجلس النواب والمجلس الاستشاري والقضاة والولاة، وتضمن تأكيد مبايعة الملك محمد السادس كملك وأمير المؤمنين.

المشاهد لهذا الاحتفال المبهر يعتقد انه يشاهد عرضاً من القرون الوسطى سواء من حيث ملابس المشاركين التقليدية، والخيول المطهمة، ومراسم تقديم الولاء بانحناء كبار القوم وتقبيلهم ليد أمير المؤمنين. وإذا كان لهذا الاحتفال رمزيته، فانه يشير الى تعايش القديم مع الجديد، مع ما يمثله القديم من وطأة التقاليد والمراتب على مشروع الإصلاح والتقدم الذي توافق الملك والشعب على أهميته الحيوية.

المصالحة غير المكتملة

تشكل المصالحة الوطنية المقدمة الضرورية لمشروع الإصلاح. فقد عانى المغرب منذ تولّي الملك الحسن الثاني الحكم بعد وفاة أب الاستقلال محمد الخامس في 1959م، عقوداً من الاضطراب والصراع الداخلي العنيف، شهد المغرب فيها انتفاضات عنيفة مثل انتفاضة مارس 1956م، ومحاولات حرب عصابات في جبال أطلس، وحرباً مفتوحة في الصحراء المغربية، الى جانب حرب حدودية محدودة مع الجزائر في تندوف، وقد ترتب على هذا الصراع الدموي مترتبات ثقيلة.

لقد بدأ الملك الراحل الحسن الثاني خطوات المصالحة الوطنية بعد تفجر قضية الصحراء، في محاولةٍ منه لإيجاد إجماع وطني على قضية الصحراء، وعمد إلى مدّ الجسور مع قوى المعارضة اليسارية، فجرى تدريجياً إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وعودة المنفيين، وإعادة غالبيتهم الى أعمالهم الحكومية.

المصالحة ولجنة «الإنصاف»

وفي 30 يوليو 1999م، جاء تشكيل أول حكومة من المعارضة برئاسة المحامي عبد الرحمن اليوسفي المعروف كشخصية حقوقية عربية عالمية، والتي اتخذت خطوات مهمة في مجال المصالحة إذ ضمت الوزارة وزيراً لحقوق الإنسان، واتخاذ خطوات عملية لإنصاف ضحايا عقود من القمع.

في ظل الانفراج المعقول في نهاية حكم الحسن الثاني وحكومة اليوسفي، بدأ تحرك نشط من قبل ضحايا القمع طوال أربعة عقود لتنظيم أنفسهم وطرح قضيتهم على الأجندة الوطنية، فتشكلت «لجنة الحقيقة والإنصاف» والتي انتشرت فروعها على امتداد المغرب في المدن والقرى والريف والبوادي وأضحت منظومة اجتماعية قوية تخترق جميع الأحزاب والقوى والمؤسسات.

وقادت هذه المنظمة تحرك ضحايا القمع وهم بعشرات الآلاف، والذي اتخذ عدة أشكال منها الاعتصامات أمام السجون، وزيارة المعتقلات السابقة والمظاهرات والمسيرات والندوات. كما اتسع نطاق عمل جمعيات ونشطاء حقوق الإنسان، إذ كانت قضية ضحايا القمع السابق محوراً أساسياً في عملها ومحل تعاون مختلف الاطراف: اللجنة والجمعيات والأحزاب والنقابات والهيئات الشعبية وغيرها.

وفي ظل حكم الحسن الثاني ووزارة اليوسفي الأولى جرى تشكيل لجنة الإنصاف والمصالحة ويرأسها إدريس بنزكري، والتي أنيط بها تلقي طلبات التعويض من قبل المتضررين. وبالفعل صرفت تعويضات لآلاف الضحايا. ولكن الدولة في ظل الحسن الثاني أصرّت على عدم الاعتراف رسمياً بمسئوليتها تجاه عشرات الآلاف من الضحايا، مع ما يترتب على ذلك من تبعات قانونية ومادية ومعنوية، كما أصرت على حماية الرسميين الذين تسبّبوا في هذه الانتهاكات.

إزاحة رجل النظام القوي

وبعد مجيء محمد السادس الى الحكم في 30 يوليو 1999م، وإعادة تشكيل حكومة اليوسفي (الوزارة الثانية)، اكتسبت جهود المصالحة الوطنية زخماً كبيراً. أقدم الملك محمد السادس على إزاحة إدريس البصري، رجل النظام القوي طوال ثلاثة عقود ووزير الداخلية ووزير الإعلام السابق، وأزاح معه الكثير من كبار المسئولين في وزارة الداخلية والمخابرات والأمن العام.

أقدم الملك محمد السادس على التخلي عن سياسة الدولة التقليدية بتمكين الأحزاب الإدارية ومحاربة أحزاب المعارضة ذات القاعدة الشعبية وخصوصاً الأحزاب الإسلامية، فخاض حزب العدالة والتنمية الانتخابات لأول مرة، وحل ثالثاً في الترتيب بعد الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال. وجاء تشكيل الحكومة الائتلافية من الأحزاب الرئيسية باستثناء حزب العدالة والتنمية الذي لم يرغب في المشاركة ليسهم أيضاً في إيجاد مناخ أفضل للمصالحة الوطنية.

خطت حكومة إدريس جطّو الائتلافية خطوة أخرى وذلك بإعادة تشكيل المجلس الأعلى لحقوق الإنسان، وكذلك إعادة تشكيل اللجنة لتصبح المجلس الوطني للمصالحة والإنصاف، بحيث تضم قضاة ومحامين وشخصيات بارزة، وإعطائه الصلاحيات الكاملة لحسم طلبات التعويض وتوفير الاعتمادات المالية والكادر البشري لحسم القضايا وتعويض المتضررين. كما اعتبر المجلس المنفيين بأنهم في عداد المتضررين كما السجناء السياسيين، واحتسبت الحكومة سنوات السجن أو المنفى بأنها سنوات عمل لمستخدمي الحكومة يترتب عليها الحصول على مرتبات وترقيات وضمان اجتماعي للمتضررين.

في الوقت ذاته رسّخت لجنة الحقيقة والإنصاف حضورها وتأثيرها بانضمام المزيد من المتضررين والضحايا إليها والإجماع الوطني على دورها. وتقوم اللجنة بتقديم ملفات المتضرّرين الى مجلس المصالحة والإنصاف، الى جانب جهود المحامين أو الأفراد أنفسهم.

كما أن اللجنة تضغط من اجل اعتراف رسمي بمسئولية الدولة، وتقديم الموظفين العموميين المتورطين في أعمال القمع الى المحاكمة. وفعلاً فقد أجريت محاكمات معنوية طوعية لبعض الضباط وجرى بثها عبر القناة الثانية، التي تعتبر فضاءً رحباً لتعبيرات المعارضة وحركة حقوق الإنسان.

وقد مثلت ورشة العدالة الانتقالية التي نظمتها المنظمة الدولية للعدالة الانتقالية ومقرها نيويورك، والمجلس الأعلى لحقوق الإنسان ومقره الرباط، أحد الفعاليات لخلق وعي لدى ضحايا القمع والجمهور عموماً، وخلق قناعة لدى الدولة باللجوء الى العدالة الانتقالية، أي العدالة المعنوية، قبل الانتقال الى العدالة القضائية في التعاطي مع ضحايا العهد السابق.

إصلاح شامل أم جزئي

لا شك في أن مشروع الإصلاح في المغرب هو ثمرة توافقٍ بين المؤسسة الملكية وقوى المعارضة بعد طول صراع. وقد بدأ المشروع في نهاية عهد الحسن الثاني، عندما جرى الاستفتاء على دستور جديد في العام 1997، ما فتح الطريق أمام ما يعرف بحكومة التناوب، أي تشكيل حكومة من حزب أو أحزاب الأكثرية البرلمانية، بعد إجراء أول انتخابات نزيهة في تاريخ المغرب، وفي ظل حكومة اليوسفي والتي ضمت الاتحاد الاشتراكي وحزب التقدم والاشتراكية، بدأت بعض خطوات الإصلاح الحذرة. ولا ننسى أن الملك الحسن الثاني احتفظ لنفسه بالحق في تعيين وزراء سيادة مثل وزير الداخلية (الحسن البصري) والخارجية (محمد بن عيسى) كما احتفظ بالإشراف على وزارة الدفاع.

ويعتبر الإصلاح الدستوري والسياسي القاعدة التي يتوجب أن ينطلق منها الإصلاح الشامل الاقتصادي والاجتماعي والتعليمي والقضائي والإعلامي... الخ. والواقع أن الدستور المعدل الذي جرى الاستفتاء عليه في العام 1997، يعتبر خطوة مهمة على طريق الإصلاح، ولكنه بنظر البعض غير كافٍ، فقد قاطعت عملية الاستفتاء عليه والانتخابات المترتبة عليه، منظمة العمل الديمقراطي ومنظمة الى الامام. ودستور 1997، وان كان يفتح الطريق أمام حكومة التناوب، إلاّ أن الملك احتفظ بغالبية الصلاحيات شبه المطلقة التي يتمتع بها، ومن ذلك قيادة القوات المسلحة وتعيين الولاة، وتعيين الوزير الأول ووزراء السيادة، والحق في رفض أو تعطيل أي قانون لا يرغب فيه وغير ذلك.

أما القضية الثانية فان الملك بموجب الدستور هو أمير المؤمنين تتوجب طاعته من منطلق ديني ووطني، وهنا الاشكال الكبير، أي ازدواجية مصدر السلطة من الشعب ولو جزئياً، من خلال ممثليه المنتخبين والسلطة الإلهية المناطة بأمير المؤمنين.

نزع لقب «أمير المؤمنين»

وهناك اتفاق بين القوى السياسية على ضرورة الإصلاح الدستوري لكن هناك تباين في مدى هذا الإصلاح وجوانبه. فقد ارتفعت أصوات تطالب بان تنزع صفة القداسة عن الملك، أي نزع صفة أمير المؤمنين، ومن ذلك ما طرحه أحمد الريسوني (عضو المكتب التنفيذي لحركة التوحيد والإصلاح وعضو المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية ومدير صحيفة «التجديد» وأستاذ أصول الفقه الإسلامي ومقاصد الشريعة في كلية الآداب بالرباط) من انه لا ارتباط عضوي بين الملك وأمارة المسلمين، فالملك صفة حكم زمني تقوم على الوراثة، أما الامارة فيكلف بها من هو مؤهل لينهض بمسئولياتها، ويزكّيه علماء المسلمين.

وقد أثارت أطروحاته ردود فعل واسعة وقوية سواء في أوساط الحكم ومؤسساته، أو في أوساط النخب السياسية والثقافية. ولتجنيب حركة التوحيد والإصلاح إمكان الحل استناداً إلى مخالفة قيادي فيها لثوابت الدستور في عدم المسّ بالملكية وإمارة المسلمين، فقد قدّم الريسوني استقالته من الحركة ووقف الأمر عند هذا الحد. لكن ما عبر عنه الريسوني بجرأة، يتداوله المغاربة ونخبهم السياسية والثقافية سراً أو شفوياً.

ويقترح الريسوني في غياب أمير المؤمنين اقامة مجلس أعلى للإفتاء. ويرتبط بالقضيتين طبيعة الملكية في المغرب، هل تكون ملكية دستورية فعلاً أي أن الملك يملك ولا يحكم وهو حكم بين السلطات وليس السلطة الأقوى؟ وأمام المغاربة طريق نضالية طويلة للوصول الى الملكية الدستورية الحقة، فليس الملك لوحده من يرغب في الاحتفاظ بالصلاحيات شبه المطلقة التي يملكها، بل أن هناك أحزاباً وقوى سياسية واقتصادية ونخباً سياسية وثقافية تريد ذلك، إما انطلاقاً من مصالحها التي ازدهرت في ظل مثل هكذا نظام حكم، أو من قيم القدسية الواسعة الانتشار والعميقة الجذور لخليفة العلويين لدى الفئات الشعبية. وهناك من يطرح أن إمارة الملك للمسلمين هو سدٌ منيعٌ أمام الفكر والنفوذ السلفي.

تشرذم الأحزاب وحكومة التكنوقراط

أما الجانب الآخر من الإصلاح السياسي المطلوب، فهو إصلاح الحياة الحزبية، حيث عبر الملك محمد السادس في خطاب العرش عن تبرّمه بالحياة الحزبية الحالية وأوضاع الأحزاب. ويدرك المراقب بسهولة تشرذم الأحزاب المغربية، وغياب الهوية الطبقية والإيديولوجية والفكرية لغالبيتها، وظاهرة الانشقاقات والانسلاخات المتتالية لأسباب مصلحية، وتركه ما يعرف بالأحزاب الإدارية، أي تلك التي فبركها حكم الحسن الثاني ومكّنها من أجهزة الدولة ليواجه بها الأحزاب الوطنية الحقيقية مثل الاستقلال والاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية، كما ظهرت أحزاب مناطقية وعرقية، والأحزاب الملتفة حول الزعيم الفرد ذي النفوذ المناطقي والمصلحي. ولاشك في أن فشل الأحزاب الكبرى في الاتفاق على الوزير الأول وتشكيلة الوزارة بعد أول انتخابات نيابية في عهد الملك محمد السادس، هو الذي دفعه الى تكليف التكنوقراطي إدريس جطّو بمنصب الوزير الأول وتشكيل الوزارة التي ضمت عدداً من التكنوقراط، الى جانب ممثلي الأحزاب الكبرى. كما أن استمرار تناحر هذه الأحزاب هو الذي دفع الملك لتوجيه الوزير الأول لإعادة تشكيل الوزارة حديثاً لتضم المزيد من التكنوقراط على حساب الحزبيين.

وتبقى الأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني تحت هيمنة الدولة المخزنية وسطوتها. وفي ظل غياب مشروع وطني للإصلاح الشامل ما يجعل مشروع الإصلاح عرضة للتقلبات

إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"

العدد 739 - الإثنين 13 سبتمبر 2004م الموافق 28 رجب 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً