شهدت سورية في غضون السنوات الخمس الماضية مرحلة جديدة من الحراك الاجتماعي، شارك فيه المثقفون بصورة خاصة الى جانب فعاليات سياسية واجتماعية متنوعة، وكان الهدف الرئيسي لهذا الحراك حوادث تبدلات في واقع السوريين وسورية، واتخذ المسار العام لهذه التبدلات سيره في ثلاثة اتجاهات رئيسية.
الاتجاه الاول، كان هدفه احداث تبدلات بنيوية في واقع الحياة السورية من خلال التركيز على تغييرات في واقع المواطن والدولة في سورية، واعادة تأسيس العلاقات فيما بينهما على قاعدة التعاون بدل علاقات الهيمنة والتهميش والتجاهل، التي سادت في العقود الاخيرة، والتي نتجت أصلاً من هيمنة السلطة على الدولة، وجعلت الاخيرة في خدمة السلطة ليس إلاّ، فتغولت الدولة - السلطة الى ابعد الحدود، وانكفأ المواطن السوري الى الطرف الابعد منعزلاً، وغابت مع تكرس هذه الحالة علاقات التفاعل بين الدولة والمواطن، لتأخذ تلك العلاقة طابعاً سلبياً، بل وعدائياً في بعض الاحيان.
وكانت حركة المثقفين السوريين هي الابرز في قوى الحراك الاجتماعي الساعية في اتجاه احداث التبدلات النوعية في واقع الحياة السورية، وفي سياق نشاطها، جاءت البيانات التأسيسية الشهيرة بيان الـ 99 وبيان الألف، ثم وثيقة التوافقات التي اعلنتها لجان احياء المجتمع المدني، والتي اندرج في اطارها عدد كبير من المثقفين السوريين. وعلى رغم الطابع التفصيلي والمحدد للمطالب التي تضمنتها تلك الوثائق، فان الخط العام لهذه المطالب نحا باتجاه اعادة تأسيس الحياة السورية سياسياً واجتماعياً وثقافياً، وصوغ نمط جديد من العلاقة بين الدولة والمجتمع: دولة لكل مواطنيها محكومة بالحق والقانون.
اما الاتجاه الثاني في الحراك الاجتماعي السوري، فقد بدا أكثر تخصصاً، وانصب جهده في تطوير الواقع السياسي السوري، وقد تم صوغه لأكثر من أربعة عقود متواصلة على قاعدة تحكم حزب واحد بالحياة السياسية في سورية، وهو أمرٌ لم يتغير كثيراً في بداية السبعينات، عندما جرى تأسيس الجبهة الوطنية التقدمية، وقد اصر دستورها على الاحتفاظ بمكانة القائد والمقرر للحزب الحاكم، وجعل الاحزاب الباقية تدور في فلك ايديولوجي وسياسي يماثل أو يقارب الفضاء الايديولوجي السياسي للحزب الحاكم.
وكان الاثر السياسي المباشر لتلك السياسة، ليس فقط استبعاد الاحزاب والجماعات السياسية المنتمية الى اتجاهات ايديولوجية وسياسية، تختلف عما يتبناه الحزب الحاكم، بل ايضاً استبعاد ومعاداة الجماعات التي لها اعتراضات على سياسات - وليس ايدلوجية - الحزب الحاكم، وذهب اثر تلك السياسة الى الابعد، إذ منع الفضاء السوري من الانفتاح على التيارات الفكرية والايديولوجية والسياسية التي شهدها العالم طوال نحو خمسين عاماً، ولم يتمكن السوريون من اختبارها، ولا استطاعت هي ان تتعرف وتختبر حياتهم.
وبطبيعة الحال، فقد ركز الحراك الاجتماعي السوري في هذا المجال على اعادة تطبيع الحياة السياسية، رافعاً شعارات تقاطعت مع شعارات طرحها الاتجاه الاول في التوجه نحو اعادة الاعتبار للسياسة والعمل السياسي، والدعوة الى اصدار قانون جديد للاحزاب والجمعيات، وإطلاق سراح السجناء السياسيين وتصفية ملف الاعتقال السياسي، وطي ملف المبعدين والملاحقين في الخارج.
غير ان أهم خطوات الحراك الاجتماعي في اتصاله بالموضوع السياسي، تمثل في خطوتين، الاولى إعلان عدد من احزاب المعارضة انتقالها من العمل السري الى العمل العلني، وتأكيد ان جوهر هذا التحول اعادة صوغ العلاقات السياسية في البلاد، ثم جاءت خطوة ثانية في انفتاح الجماعات السياسية والاهلية على بعضها بعضاً، فعقدت لقاءات وعلاقات بين احزاب المعارضة والاحزاب الكردية، وجرت حوارات مباشرة وغير مباشرة بين مختلف الجماعات السياسية والاهلية في سورية والخارج تأسيساً لعلاقات جديدة بين الجماعات المختلفة داخل النظام وخارجه.
وانصب الحراك الاجتماعي السوري في اتجاهه الثالث باتجاه خلق وتطوير هيئات وجماعات أهلية نوعية، هدفها تطوير احساس المجتمع باحتياجات قطاعاته ومكوناته على نحو ما جرى في عمل نشطاء حقوق الانسان الذين ألفوا في خطوة مهمة ثلاثاً من المنظمات الحقوقية التي تتابع ملفات حقوق الانسان من جوانب مختلفة، وقد سعى مثقفون الى اقامة منتديات ثقافية فكرية لاشاعة لغة الحوار وتطويرها على قواعد المشتركات العامة في المجتمع وقضاياه، فيما سعت مجموعات نسائية لتشكيل جمعيات نسائية جديدة مهتمة بالعمل العام، وطورت جماعات نسائية كانت قائمة مثل رابطة النساء السوريات نشاطها في اطار الحراك الاجتماعي السوري.
وفي المحصلة العامة، حاول الحراك الاجتماعي في خلال السنوات الماضية الخروج من سكونية المشهد السوري، واعادة ترتيب اوضاع سورية والسوريين في مواجهة الازمات التي تلفهم سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وتجاوز الامر الى محاولة تعزيز القدرات لمواجهة التحديات المستقبلية المفروضة في عالم تتغير معطياته بصورة عاصفة، غير ان هذا الحراك قوبل بقدر قليل من الاهتمام الرسمي الذي لم يزد في قسمه الاساسي عن التشكيك بالحراك واهدافه، حيث هو في أحيانٍ كثيرة «مرتبط بالخارج» وهدفه «تشويه صورة سورية» أو «إطاحة النظام»، وتم الاستناد الى ذلك في حملات اعتقال، وتنظيم محاكمات، طالت الكثير من رموز ونشطاء الحراك الاجتماعي في سورية، وتم اصدار احكام سياسية ضد عدد منهم تتسم بالشدة والقسوة بواسطة محاكم استثنائية، لاتخفف منها عمليات اطلاق بعض المعتقلين وسكوت مؤقت عن نشاط بعض الهيئات الاهلية والمدنية القليلة.
ومن الحق القول، ان الموقف الرسمي بما اتصف به من محدودية وضيق افق في تعاطيه مع الحراك الاجتماعي، ادى الى اضعاف هذا الحراك، ودفع فئات واسعة من السوريين التي أملت بالاصلاح الى اليأس، وتسلل الضعف الى مفاصل في الحراك الاجتماعي، ما يفسر تراجع الحراك في المستويين الفكري والاجرائي، وفي انخفاض روح المبادرة التي اتسم بها في المراحل الاولى.
وكما هو واضح، فان مستقبل الحراك الاجتماعي مرهون بأمرين اثنين، الاول هو اصرار النشطاء على دفع هذا الحراك في مسارات جديدة، تعيد اطلاق القضايا الاساسية، وتخلق مستوى جديداً من التفاعل معها وحولها من قطاعات شعبية لها مصالح مباشرة في تلك القضايا، والثاني، ان تتقدم السلطات ومفاصل رئيسية منها على الاقل لتتفاعل مع الحراك الاجتماعي ولو في الحدود الدنيا، آخذة في الاعتبار ضرورة اسقاط اللغة الاتهامية التي ثبت بطلانها، بالاضافة الى وقف كل الاجراءات ضد النشاط العام، وتصفية ماجرى اتخاذه منها في السنوات السابقة ولاسيما الاعتقالات والاحكام التي اصابت نشطاء الحراك الاجتماعي وبينهم ما تبقى من معتقلي «ربيع دمشق»
العدد 725 - الإثنين 30 أغسطس 2004م الموافق 14 رجب 1425هـ