السينمائي الأميركي مايكل مور يحب المزاح، حتى فيلمه الرائج 9/11 Fahrenheit الذي يعتبر مادة مناهضة لحملة الرئيس الأميركي جورج بوش الانتخابية، وهو يعتمد على السخرية منه. ولأن مور يهتم بكل تفاصيل حياة بوش فقد اكتشف خلال تحقيقاته أن بوش يفضل في أسفاره اقتناء الأحذية التي لا تحتاج إلى رباط. وجاء تعليق مور الساخر على هذا السر: بوش لا يعرف كيف يربط حذاءه بنفسه. وهكذا احتاج الرئيس الأميركي إلى أكثر من عام كي يكتشف ويصارح الرأي العام الأميركي بأنه وقعت أخطاء عند غزو العراق، وذلك بعد أن أعلن بنفسه في الأول من مايو/ أيار العام 2003 نهاية العمليات العسكرية الرئيسية. وقال بوش إن الأمور لم تجرِ وفقاً للطريقة التي رغبت فيها الإدارة الأميركية، فالنصر العسكري السريع على نمر من دون أنياب لم يتوج برش الورود والأرز على الجنود الغزاة بل تبع الغزو انتفاضة ومقاومة وقنابل تنفجر في كل مكان يوجد فيه جنود الاحتلال. لم يتحقق أمل العراقيين بحياة أفضل، ولم تنطلق شعلة الديمقراطية لتتعدى حدود العراق إلى دول الجوار. ولم يكسب جنود التحالف قلوب العراقيين. يأتي اعتراف بوش بارتكاب أخطاء ليؤكد تحذيرات السياسيين العرب وبعض الأوروبيين مثل الألمان والفرنسيين الذين حذروا من نتائج غزو العراق. ومما لاشك فيه أن حسابات الصقور في البيت الأبيض ووزارة الدفاع الأميركية لم تأخذ في الاعتبار أبدا أن تسهم الولايات المتحدة، التي حاربت نظام الخميني، بعودة شخصية مشابهة كثيرا للخميني، وأن تمهد الطريق، ضد مشيئتها، في حصول الشيعة في العراق على أكبر نفوذ. وهذه التطورات التي كان لا مفر من ظهورها تقع أيضا في سجل الأخطاء وسوء التقدير.
ليست الولايات المتحدة، وليست الحكومة العراقية الانتقالية، وإنما آية الله السيدعلي السيستاني هو الذي أنهى النزاع في النجف وحفظ ماء وجه مقتدى الصدر، الزعيم الشيعي المثير للجدل، الذي يحلو له الظهور تحت الأضواء، وهكذا أصبح واضحاً للمراقبين أن السيستاني أصبح أقوى شخصية عراقية، وعلى رغم أنه يحبذ أن يقوم بدور المرشد الأعلى، وعدم رغبته في العمل السياسي، فإن كل ما يفعله بعد عودته من رحلة علاج إلى لندن، يصب في التصورات السياسية لشيعة العراق الذين حُرموا في عهد النظام السابق من المشاركة السياسية.
ظهور السيستاني نتيجة سوء تقدير السياسة الأميركية في العراق، مثلما كان ظهور الخميني نتيجة سوء تقدير سياستها المؤيدة للشاه، كما أن ظهور أسامة بن لادن، نتيجة سوء تقدير واشنطن التي تعاونت وإياه خلال حرب المجاهدين ضد الاحتلال السوفياتي وزوّدته بالمال والسلاح بعد توسط السفير السعودي في واشنطن الأمير بندر بن سلطان. وقد اعترف الأخير بذلك في مقابلة مع المذيع الأميركي لاري كينغ حين اعترف بأنه التقى مرة واحدة زعيم «القاعدة»، الذي طلب هذا اللقاء في السعودية لغرض شكره على توسطه مع الدوائر الأميركية لدعم المجاهدين.
لم يكن في حسابات مقتدى الصدر أن يتسبب بنفسه أيضا في عودة ظهور السيستاني، بعد أن ظلت الأضواء مسلطة على الزعيم الشيعي الشاب الذي لم يخفِ طموحاته بأن يكون صاحب كلمة مسموعة في العراق. الآن يدين الصدر ورجاله بحياتهم للسيستاني الذي أوقف حمّام الدم وأنقذ الصدر من هزيمة عسكرية منكرة. مما لاشك فيه أن الصدر بالغ في تقدير قوة جماعته المسلحة، وكان يعتقد أن شيعة العراق كافة والشيعة في إيران المجاورة وفي لبنان سيأتون إلى مرقد الإمام علي (رضي الله عنه) لمساندته. على رغم أنهم فعلوا ذلك معنوياً فإن موقف السيستاني المناهض للعنف وعدم وجود استعداد لديه للدخول في نزاع مسلح مع الأميركيين، ترك الصدر وحيداً في الزاوية، وللمرة الأولى في التاريخ وصلت شظايا القنابل إلى مرقد الإمام علي، ما أثار غضب الشيعة على الأميركيين وكذلك على الصدر، الذي بدا في الفترة الأخيرة أنه مستعد للموت في سبيل قضية لا يفهمها أحد غيره. قبل أشهر صدر عن قاض عراقي مذكرة إيقاف بحق الصدر بعد اتهامه بالتسبب في تصفية شخصيات دينية شيعية لغرض الاستئثار بالنفوذ على الشيعة لنفسه، كما تسبب في مقتل مئات الحجاج. وقال عضو حكومة علاوي قاسم داوود بعد قبول الحكومة المؤقتة خطة السيستاني بنقاطها الخمس: الصدر رجل حر كغيره من المواطنين ويحق له أن يفعل ما يرغبه في العراق. وكان هدف قوات الاحتلال الأميركية في ابريل/ نيسان الماضي حين بدأوا حملتهم العسكرية في النجف اعتقال الصدر على أساس مذكرة الإيقاف الصادرة بحقه وخصوصاً أن الحاكم الأميركي السابق على العراق بول بريمر، أعلن الصدر شخصية إرهابية، ودعا إلى اعتقاله أو قتله. ولاشك في أن بريمر والاستراتيجيين في واشنطن شاهدوا على التلفزيون كيف أن خطة السيستاني ضمنت النجاة للصدر ورجاله بعد أن كانوا على وشك الاستسلام، كما حالت دون دمار ضريح الإمام علي، ما أراح أعصاب الأميركيين الذين كانوا يراقبون كيف أن العالم الإسلامي ينظر بغضب شديد وهو يرى جنودهم قرب ضريح الإمام علي. اضطر الأميركيون إلى العدول عن خطتهم وتركوا الأمر للسيستاني الذي برز كرجل الساعة في العراق، إذ أمر الشيعة بالزحف معه إلى النجف وأنهى النزاع، مؤقتاً.
رجل الساعة في العراق الذي شكا حديثاً من ألم في القلب، قدّم الدليل على أنه أقوى وأشد فعالية من رئيس الحكومة المؤقتة إياد علاوي، من خلال توصله إلى اتفاق مع الصدر، قدم الشيعة الدليل أيضاً على أنه بوسعهم تقرير مصيرهم بأنفسهم من دون الاعتماد على حكومة علاوي. فقد عزز نزاع النجف نفوذ الشيعة ولا أحد يتحدث عن سلطة مركزية. ذلك أنه من الوهم أن يتصور المرء أن حكومة علاوي قادرة على مدّ نفوذها إلى أرجاء العراق، ففي الشمال يدير الأكراد شئونهم بمنأى عن بغداد، وبوسع الشيعة فعل الأمر نفسه في الجنوب، وكذلك السنة في المثلث السني.
وقد قدم السيستاني - البالغ 74 عاماً من العمر - الدليل مرة جديدة على أنه صاحب حنكة سياسية، وأن واشنطن لا تجد أنه في مصلحتها الوقوف في وجهه، بل يكون من الأفضل لها أن تتحمل «خمينياً جديداً» عوضاً عن الدخول في نزاع مسلح طويل مع شيعة العراق. وقد سعت واشنطن في العام الماضي إلى كسب ود السيستاني والحصول على دعمه لمسعاها في تأسيس تجمع وطني وإعداد دستور، لكنه وجه صفعة إلى هذه المحاولة برفضه استقبال الحاكم الأميركي في العراق، وعبّر عن الرأي بأنه لا يحصل على أوامر من واشنطن ولا من بغداد. منذ أيام قليلة، فإن الثقل السياسي في العراق لم يعد في مقر حكومة علاوي المحاط بأسوار الحماية، وليس في مقر قيادة الجيش الأميركي في بغداد، وإنما في زقاق صغير في أحد الأحياء القديمة بمدينة النجف. لم يرغب السيستاني في حياته في أن يقوم بدور سياسي، وكل ما يريده أن يجري نقل السيادة إلى مؤسسات منتخبة في العراق. يرى كثيرون في الغرب أن النفوذ السياسي في هذا البلد سيُحسم للشيعة، الذين يشكلون نسبة 60 في المئة من عدد السكان العراقيين البالغ عددهم 23 مليون نسمة. ولأن نزاع النجف وحله خفضا شعبية علاوي الذي اعتبره كثيرون منذ البداية دُمية بأيدي الأميركيين لأنه عاش 30 عاماً في الخارج وتعامل مع صدام ثم مع الـ «سي آي إيه»، فإن السيستاني هو صاحب الملف النظيف والكلمة المسموعة. لذلك من الصعب على واشنطن مواصلة الصمت على مطلب السيستاني بإجراء انتخابات حرة في القريب العاجل
العدد 724 - الأحد 29 أغسطس 2004م الموافق 13 رجب 1425هـ