يأتي بشر في الدنيا، ويذهب آخرون وكأن وجودهم وعدمه واحد. وعدا الأشرار الذين يأتون بشرهم، وفي ذهابهم عيد لمن ظلموهم، فهناك صفوة من البشر يضيفون إلى هذه الحياة معنىً جديداً، وسيرةً حميدة، وعطاءً مجيداً. وآية الله السيدمحمد باقر الحكيم هو واحد من تلك الصفوة الرائعة. فقد أضحى إلى الحياة مترعرعاً في حضن والد من عظماء الرجال هو الإمام السيد محسن الحكيم الذي كان يومها المرجع الأعلى الذي بلغ صيته وتأثيره مبلغاً كبيراً في العالم أجمع. وفي ذلك البيت العلوي السامي نمت فيه صفتان، العلم والقيادة. فبيت المرجع الحكيم كان بيت علم وفقه، فعلاوة على الوالد الكبير، هناك الأخ الأكبر له هو السيديوسف الحكيم الفقيه والعالم المعروف، وبقية إخوته علماء كرام من أبرزهم العلامة الشهيد المجاهد السيدمهدي الحكيم وآية الله السيدصاحب الحكيم، وكذا أقرباؤه أيضاً علماء، من بينهم المفكر الفقيه السيدمحمد تقي الحكيم، والمرجع الديني السيدمحمد سعيد الحكيم. أما بيئة القيادة في ذلك البيت، فقد كان الملجأ الذي يرجع إليه مختلف الناس من أناس عاديين إلى علماء كبار وملوك ورؤساء وشخصيات ورؤساء عشائر وغيرهم، كانوا يأتون إلى المرجع الأعلى للسلام أو للمشورة أو المسائل الفقهية وغيرها.
وما ألهم فكر وروح الشهيد السعيد الوجود المبارك لضريح الإمام علي- عليه السلام - الذي يثري محبيه بقدسية العلم والجهاد والأخلاق، وهذا ما بان أثره في السيد الحكيم الذي تميز بروح الفداء والعطاء والجهاد متزامنة مع الفكر العلمي الخلاق، والسمو الأخلاقي في تعامله مع الغير. كما أن الجو العلمي المتنامي في فترة الخمسينات والستينات في مدينة النجف الأشرف كان يساعد على نمو المبدعين وأصحاب المواهب، ويصقل شخصياتهم.
ومنذ بواكير شبابه كان والده المرجع الأعلى يبعثه ممثلاً عنه في موسم الحج، وفي المؤتمرات الإسلامية المهمة، كالمؤتمر الإسلامي في مكة المكرمة العام 1965، وفي عمّان بعد نكسة يونيو/ حزيران 1967، وكذا مثّل والده في الكثير من المواقع الاحتفالية والتأبينية التي كان لها دور كبير في إنماء الوعي الديني والسياسي للشعب العراقي، وفي افتتاح الحسينيات والمكتبات الكثيرة التي أنشأها الإمام الحكيم في مختلف مدن العراق. كما كان الشهيد ممثلاً عن والده في موكب طلبة العلوم الدينية المتميز الذي يخرج في أربعينية الإمام الحسين في كربلاء المقدسة، ويلقي الخطب في الصحن الشريف. وعلى المستوى الثقافي اختير الحكيم عضواً في اللجنة المشرفة على مجلة «الأضواء» التي تصدرها جماعة العلماء في النجف الأشرف، والتي كان يكتب فيها فحول العلم والمعرفة في الحوزة العلمية. وفي المجال العلمي اختير العام 1964 مدرساً لعلوم القرآن في كلية أصول الفقه في بغداد، وظل فيها حتى العام 1975. كما كتب الكثير من الكتب المفيدة، من أبرزها (علوم القرآن، القصص القرآني، الإمامة وأهل البيت، دور أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة، الحكم الإسلامي بين النظرية والتطبيق، إلى غيرها من الكتب الفكرية والسياسية).
شارك مع الشهيد السيدمحمد باقر الصدر في تأسيس حزب الدعوة الإسلامية، إلا أن كليهما خرجا من الحزب بعد فترة من الزمن بتوجيه من الإمام الحكيم ليتفرغا للعمل ضمن الجهاز المرجعي المتنامي، وهو ما أهلهما لممارسة علمية واجتماعية واسعة. وبعد بدء المواجهة مع القوى الإسلامية والمرجعية العليا من قبل النظام البعثي، كان الشهيد الحكيم مرصوداً من قبل عناصر البعث التي تحاول النيل منه، وتم اعتقاله العام 1972 وأطلق سراحه في العام نفسه بعد أن تعرض لتعذيب قاسٍ في أقبية السجون. ثم اعتقل مرة أخرى في العام 1977 بعد تفجر الانتفاضة الجماهيرية الواسعة على إثر منع النظام البعثي مسيرة العزاء الراجلة التي كانت تخرج كل عام من النجف الأشرف إلى كربلاء المقدسة في أربعينية الإمام الحسين عليه السلام، وكانت التهمة الموجهة إليه هي تحريض المعزين ضد النظام، وظل في السجن متعرضاً للتعذيب ما يزيد على عام واحد. وبعد إعدام المرجع الكبير الشهيد محمدباقر الصدر العام 1980 والاعتقالات الواسعة التي شملت كوادر العمل الإسلامي في العراق، هاجر الشهيد الحكيم إلى إيران، وهناك برز كواحد من أهم قادة العمل الجهادي ضد النظام الدكتاتوري في العراق، وشارك مع المرجع المدرسي والعلامة الآصفي وآية الله السيدمحمود الهاشمي وآخرين في تأسيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق العام 1982، وكانت الفكرة الأساسية لهذا المجلس أن يكون مجمع تنسيق للحركات الإسلامية المعارضة كافة في العراق. وفي العام 1986 اختير الشهيد الحكيم رئيساً لهذا المجلس، وبقي في قيادته حتى استشهد العام 2003. وأثناء وجوده في الجمهورية الإسلامية كان للشهيد دور بارز في دعم العمل الجهادي في العراق، وتأسيس حركة سياسية واسعة معارضة لذلك النظام المستبد. وقد دفع الشهيد الحكيم ثمناً غالياً نتيجة مواقفه وجهاده ضد النظام البعثي، ففي العام 1985 أقدم النظام الصدامي على إعدام عشرة من إخوته وأقاربه، كما بلغت حصيلة الشهداء من آل الحكيم الذين قتلهم النظام الصدامي ما يقارب الثمانين شخصاً، أكثرهم من العلماء الأجلاء. وفي المهجر استطاع أن يحشد تأييداً دولياً واسعاً ضد النظام بعد حرب تحرير الكويت، وقام بمد جسور علاقات عامة مع الكثير من الدول العربية والإسلامية.
وهكذا ظل طوال سنوات وجوده خارج العراق مثابراً مخلصاً من أجل خلاص الشعب العراقي، حتى اكتحلت عيناه بالرجوع إلى وطنه. وعلى رغم كثرة محاولات اغتياله المدبرة من قبل النظام السابق، فإن المحاولة الوحيدة التي قضت عليه هي تلك التي حدثت يوم الأول من رجب 1424، إذ سُفك دمه الطاهر على أرض النجف الأشرف بعد أن أمّ الناس في صلاة الجمعة، وخطب فيهم. إذ لم تستطع قوى الشر الحاقدة أن تتحمل وجود ذلك العالم الفقيه والسياسي المحنك والمجاهد الصامد على أرض العراق، فقد كان يؤذيها لما كان يتمتع به من حكمة وقدرة وحنكة في قيادة العمل السياسي تحت ظل المرجعية. أرادت تلك القوى إسكات ذلك الصوت الحكيم والمؤهل لدور كبير في العراق الجديد، إلا أن تلك القوى الحاقدة فاتها أن الشهداء العظام هم أكثر تأثيراً وحضوراً بشهادتهم منهم في حياتهم، وإن الهدف الذي ارادوا اغتياله في شخص الحكيم سيبقى شاخصاً وقوياً في العراق على رغم كل محاولاتهم المستمرة، إذ سيبقى الإسلام الذي ذاب من أجله السيد الحكيم هو المنقذ الوحيد لشعب العراق، بعد فشل كل الأطروحات العلمانية بمختلف تنوعاتها في إقامة نظام حر عادل آمن متقدم في أرض العراق، فقد جرّب ذلك الشعب الجريح الليبرالية في زمن الملكية، وجرّب الحكم العسكري والاشتراكي والقومي والبعثي في العهد الجمهوري، وكلها باءت بالفشل الذريع. لقد عاش الحكيم من أجل دينه وشعبه، وآمن بأن الإسلام هو خلاص ذلك الشعب، وحاول أعداؤه أن يكون غير الدين هو المنقذ، ولكن دماءه الطاهرة المستباحة على أرض المقدسات ستثبت في الانتخابات المقبلة عكس ما أرادوا
العدد 723 - السبت 28 أغسطس 2004م الموافق 12 رجب 1425هـ