تبرز تساؤلات كثيرة هي في العمق من مراحل تمثيل الدور وعلائقه... تساؤلات تصب في مجرى ميكانيزما التمثيل الخالص، أول تلك التساؤلات تتعلق بتجسيد الممثل للدور المسند إليه، فيما يبدو انفصالا عن الواقع، إذ يعمد إلى تكثيف المعاني والوظائف والخصوصية والانتماء المرتبط بالشخصية التي يلعب دورها. وحين قلنا «فيما يبدو انفصالا عن الواقع»، انما نرمي إلى تأكيد أن واقعاً جديداً بمكانه وزمانه وتفاصيلهما يولدان، ما يتيح للممثل ارتباطا بواقعين: واقع الشخصية التي يلعب دورها وهو ارتباط يصل الى الذروة لحظة تجسيد الشخصية، وواقعه هو، من حيث تأجيل ارتباطه به وبتفاصيله، ومتى ما تسرب شيء من واقعه هو إلى واقع الشخصية المراد تجسيد دورها يتضح الوهن والارباك الذي لن يحتاج المشاهد الواعي الى كبير جهد للقبض عليه في حال تسلل أو تلبّس.
ستانسلافسكي وحده الذي نجح في حل المتناقضات بين الممثل كفنان خلاق والممثل كشخصية وهو وحده الذي طور تقنية محددة يستطيع الممثل وفقا لها أن يحول سلوكه السيكولوجي والفيزيولوجي الى سلوك الشخصية وأن يخلق الحياة الفريدة للشخصية في كل دور.
ولعل الناقد والكاتب المسرحي والأكاديمي المعروف ابراهيم عبدالله غلوم أكثر من استطاع أن يقرب هذا التوصيف الى الأذهان وهو يتحدث عن الممثل المسرحي على رغم الفروقات التي يمكن تلمسها لحظة تجسيد أي منهما لدوره... ففي ورقة بعنوان: «تكوين الممثل المسرحي في مجتمعات الخليج العربي» اشار غلوم إلى أن «التمثيل يستقل بعالمه استقلالا تاما ويصبح لغة خاصة لا يكون الممثل عبرها خاضعا لما يمثله النص من حركات ومواقف وتفاصيل مختلفة، كما لا يكون خاضعا لتفسيرات المخرج وخيالاته واجتهاداته في التجسيد والتمثيل وانما يكون مستقلا بوجوده وبشخصيته».
هنا ثمة إشارة على قدر كبير من الأهمية يمررها غلوم في تناوله لحال «تصميم الواقع الذي يحاكيه الممثل»... وهو تصميم يراد به الدخول العميق في تفاصيل ما يراد تجسيده، مع تسلح واع بالرؤية النقدية التي يتلمس بها طريقه للمعالجات والحلول التي يُتوخى تأكيدها أو حضور جانب منها في العمل الفني.
لا أحد يختلف على أن التمثيل «عمل تخطيطي بالدرجة الأولى»... تخطيطي من حيث تعامله مع ما هو موجود وكائن ومعاين، ويأتي على رأس كل ذلك الإنسان بوجوده وفعله والمعاني التي يمكنه أن يبرزها في وجوده وفعله، على أن الأهم في الأمر هو اللحظة الحاسمة التي يستطيع من خلالها الممثل الانسلاخ عما يمثله هو قبل لحظة الدخول في العمل والبدء في شكل وتكوين وعمق نفسي وجسدي وايمائي تتطلبه الشخصية المراد تجسيدها وتقديمها كنموذج أو حال مكثفة وقوية ربما لا يسهل اختبارها وسبر اغوارها في الحياة اليومية العادية بعيدا عن اشتراطات تلك الصناعة.
ربما تكون السينما العربية لا تحفل بكثير من الشواهد التي يمكننا الركون أو الاستناد اليها في مدى حرص الممثل على انسلاخه من زمنه ومكانه وشخصيته في حال اسناد دور إليه والبدء بالتعايش مع زمان ومكان وتفاصيل الشخصية التي يراد له تجسيدها... فقط يحضرنا أحمد زكي، نور الشريف، فاتن حمامة، وبشكل غير منتظم، يحيى الفخراني. فيما السينما الغربية، والأميركية خصوصا، عمدت إلى التركيز على الطريقة النفسية أو بمعنى أدق أولتها اهتماما كبيرا من خلال انطلاق الممثل من «الباطن... من العمل على العواطف... من العلاقات الخاصة مع الشخصية «المخيلة، المشاعر»، لذلك ليس مستغربا أن يخرج روبرت دي نيرو من دوره في الجزء الثاني من ثلاثية «الأب الروحي» بتجسيد خلاق للشخصية التي لعبها، ذلك انه «ذهب الى صقلية لملاحظة الناس ورصد سلوكهم وطريقتهم في الكلام»، كذلك الأمر في فيلمه «نيويورك نيويورك»، اذ تعلم العزف على آلة الساكسفون وأجاد العزف عليها.
تيم روبنز هو الآخر ومن أجل دوره كسجين في فيلم The shawshawk redemption قام بأبحاث وقضى وقتا في السجن الانفرادي على نحو طوعي.
ثمة مجازفة بجزء من الذات لحظة الشروع في تجسيد شخصية ما... تستنزف من صاحبها الشيئ الكثير... تأخذه الى ما يشبه الحدود القصوى من الانفصال الذي يستطيع من خلاله أن يراقب الحياة بعين أخرى وبذات أخرى ومن خلال زاوية نظر أخرى ومن موقع آخر في الحياة، وبذلك يصبح الممثل بموهبته قادرا على مراقبتها - أي الحياة - واعادة نسخها.
وبالعودة الى استنزاف الذات نقف على رؤية دي نيرو في هذا الصدد: «كل شخصية أؤديها تستنزف قدرا كبيرا من ذاتي فيما بعد، ينتابني احساس بالفقد بأني فقدت شيئا، وهذا الاحساس لايزول الا حين أبدأ في الحفر في الشخصيات التالية».
ويؤكد جيرارد ديبارديو ذات الانطباع في هذا المجال بالقول: «بالنسبة لنا، جميع الممثلين، المخاطر هي نفسها، لذلك نجازف بجزء من ذواتنا في كل دور. الممثلون يعبرون عن تلك الانفعالات التي هي مكثفة وقوية جدا قياسا الى تلك التي نختبرها في الحياة اليومية. لهذا السبب التمثيل شاق جدا. ان له امتيازات كثيرة، لكنه محفوف بالمخاطر، فالانفعالات ليست زائفة، انها أشياء اختبرها وعاشها المرء في حياته اليومية»
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 723 - السبت 28 أغسطس 2004م الموافق 12 رجب 1425هـ